خشونة مرضية كارهة أبدا لم يتعرض لها.
شك في رجولته المبكرة أو لفظة سباب تجرح تلك الرجولة، على عكس ما كانت تفعل أم عيد جارتهم التي كثيرا ما كان يسمع صوتها في عز الليالي ملعلعا يتهم ابنها بأنه عاد متأخرا؛ لأنه لا بد كان مع الأولاد في حقول الأذرة، وصراخ وكلمات كانت تجعل سلطان يغلي دمه هو بالغضب حنقا على تلك المرأة وإشفاقا على صديقه ابنها. بل حتى ذلك الابن، رغم كثرة ما وجهته له أمه من طعن في رجولته، رغم لونه الأبيض الفاتح، وشعره المائل للصفرة إذ كانت أمه من الدقهلية، لم ينشأ ولم يحدث أبدا أن تحققت نبوءة أمه من أنه سيصير كذا حين يكبر، مثله مثل «شاهين» الطحان. وشاهين الطحان هذا كان ظاهرة من الظواهر الكثيرة التي تختص بها بعض قرى الأرياف سواء في بحري أو في الصعيد. رجل بالمظهر والشكل له لحية وشارب، وإنما محلوقتان، ولكنه فيما عدا هذا أنثوي في كل شيء آخر، في طريقة كلامه، في مشيته، في التصاقه الدائم بالمجتمع النسائي في القرية، وحتى في عمله، فقد كان يتاجر في الزبدة والسمن والقشدة، ويغوي شباب القرية المراهق بما هو على استعداد لدفعه من نقود، وله سمسار من صعاليك الشباب كان هو الذي يجلبهم له مقابل عطاياه، معروف ومشهور ومحل استنكار كثير من المتزمتين وأهل الورع والتقوى، ولكنه عند الناس العاديين، بحكم طول المدة واشتهار خصاله، أصبح يؤخذ مأخذ الظواهر العادية التي لم تعد محل استنكار، وإنما أصبحت فقط محل سخرية البعض، ومثلا تضربه الأمهات لأولادهن إذا أحببن أن يخيفوهم من الميوعة أو إطالة الشعر أو «عوج الطاقية».
أبدا ما جرحت أمه رجولته، بالعكس كانت دائما محل افتخار به، كل ما يذكره هو ذلك اليوم المشهود الذي دخلت أمه «زريبة» البهائم ذات ظهر صيفي كان الكل فيه نعسان أو هاجعا هجوع القيلولة، هو فقط كان منفردا في الزريبة بحمارة عمه الذي جاء يزورهم من النجع المجاور. ولا يزال يذكر تصرف أمه الذي يعترف الآن أنه كان قمة في الحنكة، أو كأنها طبيبة أمراض نفسية، إذ حين فتحت باب الزريبة ووجدته على تلك الصورة، ورأت الذعر الخجول، وقد جحظ من كل ملامحه، وأسال فجأة غزير عرقه قالت وهي تستدير راجعة بأسرع مما دخلت قائلة له من خلف ظهرها: كيف تركب حمارة عمك من غير «بردعة» يا جحش؟
وهكذا أبرأته هي حتى أمام نفسه، حتى لا يحس مطلقا بأي حرج. أما حين ضبطته خلف كومة الحطب فوق السطوح مع الأرملة سعدية العمشة التي كانت تجلب لهم الماء. يومها انهالت عليه ضربا بالقنو، ولكنه أحس، وهذا هو ما استغرب له، أنه ليس ضرب غضب، بل يكاد يكون ضرب أداء واجب، بل إنه أحس أن في ثنايا شتائمها وتأنيبها نبرة تكاد تكون نبرة فخر بما رأت واكتشفت، كل ما في الأمر أن غضبها كان يبدو منصبا على اختياره للأرملة الكبيرة القبيحة، وليس لأي سبب آخر.
9
من بعيد بدأت تترى نوبات سعال الشيخ أبو المعاطي، يذيعها ميكروفون المسجد إيذانا بتسليك زوره استعدادا لتسابيح الفجر وأذانه. كانت الدنيا لا تزال حالكة الظلمة، وكان النوم قد بدأ يتسرب إلى «الثور» فقد بدأت رأسه تسقط فجأة، فيفيق مذعورا، ويعيد رفعها بسرعة، وكأنه ينفي عن نفسه تهمة أنه قصر في يقظته، وأن النوم غلبه في حضرة السلطان اليقظان. وكأنما كان أذان الفجر، بعد الليل الطويل المستعيد لشريط الحياة إيذانا باختلاط الماضي بالحاضر في ذهن سلطان وذاكرته، أحداث صغيرة تقفز فجأة إلى وعيه قفز براغيث ليالي الشتاء لا يملك الإمساك بها، وإذا أمسكها أفلتت، ثم نوبات مناطق شاسعة بأسرها ضاعت من الذاكرة، أو أضاعها هو بإرادته، فلم تتبع حياته آراءه ومبادئه بدقة كاملة أو انضباط، كثيرا ما كانت تحدث الهوة بين الفعل والمبدأ، بين ما يأمله وما يستطيعه، بين الدأب الجليل المستمر، ثم نفض اليد فجأة، وكأن لا فائدة، وكأن ما يحاول تحقيقه أضغاث أحلام أو أحلام أطفال. مثل ذلك اليوم.
أجل، أجل، ذلك اليوم.
ظهرا كان الوقت؟ منتصف الليل؟ أبدا لا يذكر، المؤكد أن كان هناك وقت، وكان هناك رجل، وكانت هناك استغاثة، طلب ملح، رجاء مليء بالعشم والاستغاثة. استغاثة يدرك صاحبها أنه لم يتوجه بها إلى الإنسان الخطأ، إذ إن شهامته مضرب الأمثال. أنا وقعت من السماء، وأنت تلقيتني. قرار، نعم نعم يذكر جيدا أن كان لا بد له من قرار يتخذه. لا شيء عنده أسهل أيامها من اتخاذ قراره، في ومضة وفي لا وقت يكون حسبها وحسمها. الكل ينتظر ومتأكد أن الكلمة ستخرج من فمه، كما تعودت أن تخرج، جريئة مليئة بعين الحكمة، والحكمة عنده لم تكن التصرف الوقور المتزن، وإنما أحيانا أكثر القرارات جنونا وخروجا عن المألوف إذا كان الأمر والواجب يتطلب ذلك.
مؤيدوه جاءوا، عشرات، مئات، كثيرون وكأنهم آلاف، كأن قدراتهم جميعا على الوصول إلى قرار قد أوقفت، أوقفوها أو توقفت، إذ يعرفون أن هذا ليس عملهم أو دورهم، ولكنه دوره الذي لا يستطيع سواه أن يقوم به بمثل ذلك الحزم والحسم وأصح الصحيح.
كان العدوان قد حدث، أمام الملأ، ثم وكأن من قاموا به مجانين، فقد كان الكل يعلم أن رده سيكون الصفعة في جبروت عنفوانها، والركلة والإهانة ترد عشرات أضعاف ما حدثت به.
صفحة غير معروفة