لم يسترسل بوركهارت كثيرا في حديثه عن فن عصر النهضة، أو التغيرات الاقتصادية، ولكنه غالى في تقديره لما يرى أنه نهج شكوكي، بل وحتى «وثني» للدين في ذلك الوقت، وكان تركيزه مقتصرا على إيطاليا فقط، فلم يحاول أن يربط عصر النهضة بالثقافات الأخرى. وظل فهمه لمصطلحات مثل «الفردية» و«العصرية» غامضا للغاية. وعلى غرار ميشليه، كانت رؤية بوركهارت لعصر النهضة مبنية على ظروفه الشخصية. فقد كان بوركهارت مفكرا أرستقراطيا، يفتخر بتأييده للنزعة الفردية البروتستانتية والجمهورية في سويسرا. ولكنه كان يخشى نمو الديمقراطية الصناعية، وما رأى أنه تدمير للجمال الفني. ومن ثم، فقد كانت رؤيته لعصر النهضة كفترة اتحد فيها الفن والحياة، واحتفي فيها بالجمهورية ولكن مع تقييدها، وتولت الدولة تكوين صورة معتدلة من الدين، تبدو صورة مثالية لمدينة بازل التي يحبها. ورغم ذلك، فقد ظل كتاب بوركهارت - في الجدل الدائر بأن عصر النهضة كان أساس العصر الحديث - في قلب دراسات عصر النهضة منذ ذلك الحين، وغالبا ما كان يواجه الكثير من الانتقادات، إلا أنه لم يستبعد تماما.
وقد وجد احتفاء كل من ميشليه وبوركهارت بالفن والنزعة الفردية، على أنهما السمات المحددة لعصر النهضة، الدعم المنطقي في دراسة والتر باتر التي تحمل اسم «عصر النهضة»، والتي نشرت لأول مرة في إنجلترا عام 1873. تلقى باتر تعليمه في أوكسفورد، وعمل أستاذا بها، وكان مؤيدا للمذهب الجمالي، واستخدم دراسته لعصر النهضة كوسيلة للدفاع عن اعتقاده في «حب الفن من أجل الفن». رفض باتر الجوانب السياسية والعلمية والاقتصادية لعصر النهضة، حيث رأى أنها غير ذات أهمية، كما رأى «روح التمرد والثورة ضد الأفكار الأخلاقية والدينية التي كانت سائدة في ذلك الوقت» في الأعمال الفنية لبعض رسامي القرن الخامس عشر مثل بوتيتشيلي وليوناردو وجورجوني. كان هذا احتفاء جماليا تلذذيا، بل ووثنيا، لما كان يطلق عليه باتر «متعة الحواس والخيال». وقد وجد باتر آثارا لهذا الاعتقاد «بحب أمور الفكر والخيال من أجل الفكر والخيال» ترجع إلى القرن الثاني عشر والقرن السابع عشر. ورغم أن الكثيرين قد صدموا بكتاب باتر الفاسد والمضاد للدين، فقد شكلت آراؤه نظرة العالم الناطق بالإنجليزية لعصر النهضة على مدار عقود.
لقد رسم كل من ميشليه وبوركهارت وباتر صورة عن عصر النهضة من منظور القرن التاسع عشر، صورة ترى هذا العصر فترة روحانية أكثر منها تاريخية. وقد كشفت إنجازات الفن والثقافة موقفا جديدا تجاه الفردية وما يعنيه أن يكون المرء «متحضرا». ومشكلة هذه الطريقة في تعريف عصر النهضة أنها بدلا من أن تقدم وصفا تاريخيا دقيقا لما حدث منذ القرن الخامس عشر وما تلاه، فقد بدت أكثر وكأنها مثال نموذجي للمجتمع الأوروبي في القرن التاسع عشر. فقد احتفى هؤلاء النقاد بالديمقراطية المحدودة، ومذهب الشك تجاه الكنيسة، وقوة الفن والأدب، وانتصار الحضارة الأوروبية على جميع الحضارات الأخرى. وقد شكلت هذه المبادئ أسس الإمبريالية الأوروبية في القرن التاسع عشر. ففي تلك المرحلة من التاريخ التي كانت فيها أوروبا تحاول بعدوانية فرض سيطرتها على معظم أجزاء الأمريكتين وأفريقيا وآسيا، كان أناس مثل باتر يخلقون رؤية لعصر النهضة بدت كما لو أنها تقدم تأصيلا وتبريرا للهيمنة الأوروبية على العالم.
عصر نهضة القرن العشرين
وفي وقت مبكر من القرن العشرين، ظهرت وجهة نظر أكثر تناقضا عن عصر النهضة. وقد واجه بوركهارت أول التحديات في عام 1919، عندما نشر يوهان هازينجا كتاب: «انحسار العصور الوسطى». فقد درس هازينجا كيف تم تجاهل ثقافة ومجتمع أوروبا الشمالية في التعريفات السابقة لعصر النهضة، وتحدى تقسيم بوركهارت لتلك الفترة إلى «عصور وسطى» و«عصر النهضة»، قائلا بأن الأسلوب والمواقف التي حددها بوركهارت بأنها عصر النهضة، كانت في الواقع انحسارا لروح العصور الوسطى. واستدل هازينجا بالفن الفلمنكي ليان فان أيك في القرن الخامس عشر:
إنه - من حيث الشكل والمضمون - نتاج تراجع العصور الوسطى. وإذا اكتشف بعض مؤرخي الفن عناصر عصر النهضة خلال هذه الفترة، فذلك لأنهم اختلط عليهم الأمر بشكل خاطئ تماما في التمييز بين الواقعية وعصر النهضة. وهكذا أصبحت هذه الواقعية الدقيقة، وهذا الطموح في تقديم كافة التفاصيل الطبيعية، هما السمة المميزة لروح العصور الوسطى التي كانت تلفظ أنفاسها الأخيرة.
تمثل الواقعية المرئية المفصلة في لوحة فان أيك - في نظر لهازينجا - نهاية تقاليد العصور الوسطى، وليس ميلادا لروح عصر النهضة المتمثلة في التعبير الفني القوي. ورغم أن هازينجا لم يرفض استخدام مصطلح «عصر النهضة»، فإنه لم يتبق من الفكرة سوى جزء ضئيل لم ير أنه قد انبثق عن العصور الوسطى. لقد قدم كتاب هازينجا نظرة متشائمة للغاية لنموذج عصر النهضة الذي احتفى به أسلافه في القرن التاسع عشر. ونظرا لأن هذا الكتاب قد وضع في خضم الحرب العالمية الأولى، فليس من المدهش أنه لم يستطع إثارة قدر كبير من الحماسة لفكرة عصر النهضة باعتباره ازدهار تفوق الفردية و«الحضارة» الأوروبية.
شهد منتصف القرن العشرين قيام مجموعة من المفكرين المهاجرين من أوروبا الوسطى بإعادة تقييم عميق لعصر النهضة، في وقت هدد فيه ظهور الأنظمة الاستبدادية بتقويض القيم الفلسفية الرحيمة للنزعة الإنسانية في عصر النهضة. فقد هرب العديد من الباحثين الألمان - مثل بول أوسكار كريستلر، وهانز بارون، وإرفين بانوفسكي - من الفاشية التي ظهرت في ثلاثينيات القرن العشرين، وذهبوا إلى المنفى في الولايات المتحدة؛ ولذلك فإن كتاباتهم اللاحقة عن عصر النهضة تأثرت تأثرا كبيرا بهذه الأحداث، ولا تزال تؤثر في الدراسات المعاصرة عن تلك الفترة.
يقول كتاب «أزمة عصر النهضة الإيطالية المبكرة» (1955) لهانز بارون بأن إحدى اللحظات الفارقة في تاريخ الحركة الإنسانية في عصر النهضة ظهرت في فلورنسا نتيجة لحرب ميلانو الثانية (1397-1402). ومن منظور بارون، فإن اللحظة التي استعد فيها دوق ميلانو جان جالياتسو فيسكونتي لمهاجمة فلورنسا عام 1402 كانت أشبه «بوقائع التاريخ الحديث التي يخيم فيها الغزو بهدف التوحيد على سماء أوروبا». وعندما قارن بارون جان جالياتسو بنابليون وهتلر، توصل إلى أن تلك المقارنات ساعدت على فهم «أزمة صيف عام 1402، وفهم أهميتها المادية والنفسية بالنسبة للتاريخ السياسي لعصر النهضة، ولا سيما لنمو الروح المدنية بفلورنسا». أصيب جان جالياتسو بالطاعون في سبتمبر 1402 ونجت فلورنسا من بين يديه. ومن منظور بارون، فإن البطل العظيم لما أطلق عليه انتصار الجمهورية المدنية على حكم الفرد الإقطاعي كان العالم ورجل الدولة ليوناردو بروني. ووفقا لما ذكره بارون في كتابه «في مدح مدينة فلورنسا» وكتابه «تاريخ الشعب الفلورنسي»، فإن بروني قد تحدث عن «فلسفة جديدة للمشاركة السياسية، والحياة النشطة التي نشأت اعتراضا على نماذج الانسحاب العلمي». وكان هذا يمثل تعريف بارون للنزعة الإنسانية المدنية، والتي «كانت تحاول أن تثقف الإنسان باعتباره عضوا في مجتمعه ودولته»، والتي اعتنقت فضائل الجمهورية، والتي رأى بارون أنها ممثلة في عائلة ميديتشي في فلورنسا.
كانت أطروحة بارون استجابة جذابة لدور المفكر الإنساني في وقت كانت أوروبا مهددة بظهور الاستبداد السياسي، واعتبرت هذه الأطروحة فلورنسا وآل ميديتشي في قلب أصول عصر النهضة، ولكنها في الوقت نفسه نظرت إلى النزعة الإنسانية لدى بروني والتوجه الجمهوري في فلورنسا نظرة مثالية. أما بول أوسكار كريستلر، فقد تبنى منهجا مغايرا لمنهج بارون؛ فبالنسبة لكريستلر، الفلسفة التأملية لمارسيليو فيتشينو - وهو من مؤيدي الحركة الإنسانية في فلورنسا - خاصة كتابه «اللاهوت الأفلاطوني» (المكتوب في الفترة ما بين 1469 و1473)؛ هي ما حددت انصهارا جديدا بين العالم الكلاسيكي والمسيحية. ومن منظور كريستلر، فإن ابتكار فيتشينو يكمن في الاعتقاد بأن:
صفحة غير معروفة