إهداء
توطئة
عصر العرب الذهبي
إهداء
توطئة
عصر العرب الذهبي
عصر العرب الذهبي
عصر العرب الذهبي
تأليف
فيليب دي طرازي
إهداء
إلى رافع لواء العلم والأدب، وأحد حماة مجد العرب:
فخامة الشيخ بشارة الخوري رئيس الجمهورية اللبنانية.
فيليب دي طرازي
توطئة
من طالع التواريخ القديمة والحديثة، ووقف على أخبارها وأسرارها وجد أن لكل أمة راقية عصرا زاهيا تألق فيه كوكب مجدها، وأطلق المؤرخون على العصر المذكور لقب «العصر الذهبي»؛ تعريفا له وتمييزا عن سائر عصور تلك الأمة. واشتهر أكثر العصور الذهبية بأسماء الملوك الذين نهضوا بأممهم إلى أعلى ذرى الفلاح والعظمة.
وقد حصرت عنايتي في هذا البحث بكشف النقاب عن «عصر العرب الذهبي» دون سائر العصور الذهبية عند بقية الأمم؛ لأنه فاقها وامتاز عليها من نواح شتى، ذلك ما دعاني إلى وضع هذه النبذة المختصرة التي ألمعت فيها إلى بعض مفاخر العرب ومآثرهم في أيام عزهم. وليس هذا البحث إلا برض من عد مما تسنى لي الوقوف عليه في تواريخ تلك الحقبة الذهبية السعيدة، وهو موضوع مبتكر لم يطرقه كاتب عربي أو غير عربي قبل اليوم. فأرجو أن يفوز عملي برضى أهل البحث وأرباب النقد؛ إنه السميع المجيب وإليه أنيب.
عصر العرب الذهبي
(1) أشهر العصور الذهبية في التاريخ
يطيب لنا أن ندون في ما يلي أسماء أشهر العصور الذهبية التي خلد الكتبة ذكرها، وهي: عصر بريكليس (499-429ق.م) عند اليونان، وعصر أوغسطس قيصر (63ق.م-14م) عند الرومان، وعصر كسرى (531-579م) عند الفرس، وعصر كرلس الكبير أي شرلمان (768-814) إمبراطور المغرب، وعصر الرشيد وابنه المأمون (786-833) عند العرب، وعصر لاون العاشر (1513-1521) بابا رومية، وعصر كرلس الخامس، أعني شرلكان (1516-1555) في إسبانيا، وعصر الملكة اليصابات (1558-1602) في إنكلترا، وعصر لويس الرابع عشر (1643-1715) في فرنسا، وعصر ماري تيريز (1717-1780) في النمسا، وعصر فريدريك الكبير (1712-1786) في بروسيا، وعصر كاترينا الثانية (1729-1796) في روسيا.
نضيف إلى تلك العصور عصر الأمير فخر الدين المعني الثاني (1598-1635)، وعصر الأمير بشير الكبير (1788-1840) في لبنان، وعصر محمد علي الكبير (1805-1848) جد الأسرة المالكة في مصر، إلخ . وقد تفردت جميع العصور المذكورة بمزايا خاصة جعلت أن يطلق على كل منها اسم «العصر الذهبي»؛ تخليدا لها وإقرارا بفضل ذويها. (2) فجر العصر العربي الذهبي
مرادنا بعصر العرب الذهبي حقبة ميمونة تبلج فجرها الزاهر منذ عهد هارون الرشيد وابنه المأمون (170-218ه/786-833م)، وانبثقت أشعتها من سماء بغداد حتى انبسطت في الأقطار العربية جمعاء: من وادي دجلة والفرات في القارة الآسيوية إلى وادي النيل والمغرب الأقصى في القارة الإفريقية إلى ديار الأندلس وصقلية في القارة الأوروبية، فأصبحت الخلافة العباسية في تلك الحقبة تحاكي دولة الرومان أيام اكتمال عزها واجتماع شملها.
1
ومن مظاهر عظمة العباسيين وعزهم الباذخ أنهم كانوا في حفلاتهم الرسمية يستوون على عرش يعلو الأرض نحو سبعة أذرع، وكانوا يتعممون بعمامة سوداء، ويتوشحون برداء أسود ويقبضون بيمينهم على صولجان ذهبي.
2
وما إن استتب السؤدد للعرب في ما دوخوه من الأمصار، حتى جعلوا لغتهم العربية لغة الدواوين الرسمية وفرضوا على رعاياهم في مختلف الأنحاء أن يتخاطبوا بها بدلا من اللغات الشائعة حين ذاك كالفارسية في بلاد فارس، والسريانية في العراق وسوريا وما بين النهرين، والقبطية في مصر، واليونانية في بعض دواوين الدولة وفي المعاهد العلمية والبيوتات الخاصة.
هكذا انتقل العرب من البداوة إلى الحضارة بملابستهم الأعاجم، وأدركوا في الثقافة شأوا بعيدا خطوا فيه الخطى الطوال، وراحوا يسترشدون الأمم التي تغلبوا عليها، ولا سيما الفرس والروم والسريان؛ ليتلقنوا علومهم ويتقنوا آدابهم، فدرسوا الغناء والبناء والنقش وحب التأنق والسياسة على أمة الفرس، ودرسوا العلوم الرياضية والمنطقية والمعارف الطبيعية والإلهية والسياسات المنزلية على الروم أو اليونان،
3
ثم درسوا الفلاحة والفلك والطبابة على السريان
4
من نساطرة ويعاقبة وملكيين وعلى علماء الصابئة.
سادت اللغة العربية بفضل الخلفاء العباسيين، وانتشرت في طول البلاد وعرضها، وأحرزت قصبة السبق على سائر اللغات، حتى عجز الروم غربا والفرس شرقا والسريان شمالا عن مصادمة تيارها. ومما لا سبيل إلى إنكاره أن الفرس أصبحوا أثناء النهضة العربية يستصعبون إيراد كلمة فارسية أو بيت من الشعر الفارسي في كتاباتهم إلا على سبيل الاستطراد أو الاستشهاد.
5 (3) إنشاء المدارس والمكتبات في العصر العربي الذهبي
تذوق العرب لذة الحضارة؛ فارتقت أحوالهم، ورقت طباعهم، وانسجمت عباراتهم، وما لبثوا أن أهملوا استعمال الغريب في محادثاتهم، ونبذوا وحشي الألفاظ في كتاباتهم، واستأثروا بالفصيح البليغ في مخاطباتهم وتصانيفهم، وشرعوا يؤسسون في كل صقع من أصقاعهم مدارس عالية ومكتبات غنية فاخرة، فابتنوا «بيت الحكمة» ببغداد، و«مدرسة طليطلة» بالأندلس، ثم شادوا «دار العلم» بالقاهرة على أسلوب أشار إليه الفيلسوف باكون.
6
ومما يجدر بالذكر أن أحد وزراء الدولة العباسية تبرع إذ ذاك بمائتي ألف دينار لعمارة كلية علمية في بغداد، وخصص بنفقاتها حولا بعد حول خمسة عشر ألف دينار. وقد احتشد فيها ستة آلاف طالب لا فرق بين غنيهم وفقيرهم، وقريبهم وبعيدهم.
على هذا النمط انتشرت المدارس والمكتبات في المدن والدساكر، وأضيفت إليها كتاتيب لا تحصى بجوار الترب والجوامع؛ فتيسرت دواعي التثقيف والتهذيب للخاصة والعامة. (4) تنشيط الكتاب إلى الترجمة والتأليف في العصر العربي الذهبي
تجلى للخلفاء أيام عزهم أن النهضة العربية لن تقوم ولن تبلغ ذروة الكمال إلا بإنعاش الثقافة وتعميمها بين طبقات الأمة جمعاء، فأخذوا يبحثون عن جهابذة مشاهير وتراجمة ماهرين يركن إلى خبرتهم وأمانتهم في تحقيق تلك الأمنية.
ثم اصطفوا وفودا متضلعين من العلوم واللغات وبعثوهم إلى بلاد الروم وأقاصي الهند وغيرها؛ للتنقيب عن الكتب النفيسة واستحضارها إلى العاصمة.
7
قال أبو الفرج الملطي: «لما أفضت الخلافة العباسية إلى الخليفة السابع عبد الله المأمون بن هارون الرشيد تمم ما بدأه جده المنصور؛ فأقبل على طلب العلم في مواضعه، وداخل ملوك الروم وسألهم صلته بما لديهم من كتب الفلسفة، فبعثوا إليه منها ما حضرهم، فاستجاد لها مهرة التراجمة وكلفهم إحكام ترجمتها فترجمت له على غاية ما أمكن.»
8
وما إن عاد رجال تلك البعثات العلمية إلى دار السلام حتى بادر الخلفاء إلى تأسيس دواوين يعكف فيها العلماء على الترجمة والتأليف، فاجتمع حول أولئك الخلفاء رهط من أساطين العلم كآل بختيشوع، وثئوفيل الرهاوي، وابن ماسويه، ويوحنا بن البطريق، ويعقوب الكندي، وبني موسى بن شاكر ، والربان حنين بن إسحق العبادي، وثابت بن سنان بن قرة الصابئ، وغيرهم كثيرين.
شرع أولئك العلماء يتبارون في الترجمة والتصنيف والتبييض والتسويد، وسالت أقلامهم في إنشاء نفائس التآليف حتى إنهم لم يتركوا بابا من أبواب المعارف إلا طرقوه، فلم يدعوا كتابا ذا فائدة كبرى في اللغات اليونانية والفارسية والسريانية والعبرية والهندية إلا درسوه ومحصوه وأحكموا نقله إلى اللغة العربية.
وعلى أثر تلك الفورة العلمية هب فتيان العرب وأقبلوا ذرافات ووحدانا إلى «بيت الحكمة»، وإلى غيره من معاهد العلم يحرضهم الخلفاء على القراءة ويرغبونهم في التعليم،
9
فدرسوا وطالعوا وصنفوا وتساجلوا حتى أصبحوا خير قدوة لمن عاصرهم أو جاء بعدهم من طلاب العلم ورواد الأدب.
وحسب الخلفاء فخرا أنهم لم يقتصروا على ترغيب الجهابذة في التأليف وفي نقل الكتب الأعجمية إلى اللغة العربية، بل حرصوا الحرص الشديد على ترجمات عربية لنصوص مؤلفات يونانية ولاتينية وسريانية لو لم تنقل بهمتهم إلى اللسان العربي، لأفنتها نوائب الدهر إفناءها مؤلفات ثمينة كثيرة سمعنا باسمها ولم نحظ برؤيتها. (5) مبالغة الخلفاء في تعزيز العلم وتكريم العلماء
مثلما استرسل العلماء في جمع المخطوطات وترجمة الكتب وتأليفها استرسل الخلفاء في تعزيز الحالتين العلمية والعمرانية كلتيهما، وروجوا سوقيهما في جميع أنحاء الملك العربي الواسع الأرجاء. ولقد بلغت النهضة العلمية أوجها في صدر الدولة العباسية بفضل المنصور والرشيد والمأمون؛ لأنهم جعلوا بغداد في عهدهم أم المدائن الإسلامية وقطب دائرة الثقافة ومجتمع العلماء والشعراء، ثم شاركتها في ذلك سائر العواصم العربية كدمشق والقاهرة والقيروان وقرطبة وغيرها.
على أن هذا العصر الذهبي امتاز بخلفاء علماء تولوا عرش الإسلام في تلك العواصم، وعرفوا حق المعرفة أن العلم لن ينمو ولن يزهو إلا في كنف ملوك نظيرهم يتعهدونه ويعززونه ويعطفون على أربابه. وقد حملهم على المبالغة في تكريم أهل الأدب تيقنهم أن أهل العلم هم صفوة الله من خلقه ونخبته من عباده؛ لأنهم صرفوا عنايتهم إلى نيل فضائل النفس الناطقة، وزهدوا في ما يرغب فيه ...
10
بناء عليه أدروا لهم أخلاف الرزق وقربوهم وجالسوهم وآكلوهم وشاربوهم وسامروهم وساجلوهم، واعتمدوا في المشاكل على آرائهم.
11
إزاء تلك الأريحية وهذا العطف اندفع يقصد الخلفاء كل ذي قريحة من الكتاب والأئمة والشعراء والأطباء والمهندسين والمنجمين والمترجمين على اختلاف الملل والنحل، فشخصوا إلى دار السلام؛ طمعا بإحراز جائزة أو منحة أو الحصول على منصب، وناهيك بكرم الخلفاء، وثروة عاصمتهم، وانتشار الرخاء بين سكانها، وازدحام الغرباء على أبوابها، واختلاف التجار إليها للبيع والشراء. زد على ذلك تدفق الذهب من بيت المال على أركان المملكة وعلى من لف حولهم من الأنصار وأرباب الصناعات والفنون والآداب الرفيعة، ذلك كله كان من أقوى الذرائع التي أهابت بالخلفاء إلى المبالغة في تعزيز العلم وإجلال العلماء وتكريمهم.
وقد أثبت المؤرخون أخبارا شتى برهنت عن مكارم الخلفاء وعطفهم على العلماء، من ذلك أن الخليفة المأمون كان يتبرع على طبيبه جبرائيل بن بختيشوع (المتوفى 828م) برواتب نقدية سخية، وقد بلغ مجموعها السنوي كما وجدوه مدونا بخط جبرائيل نفسه ألوفا من الدنانير.
12
أما الخليفة المتوكل؛ فلم يكتف بما تبرع به من الأموال الطائلة على طبيبه حنين بن إسحق (المتوفى 876م) شيخ تراجمة الإسلام، بل خصص له قصرا فخما تجاه بلاطه زينه برياش فاخر، وكان الخليفة يزن لحنين من الذهب زنة ما يترجمه من الكتب مثلا بمثل.
13 (6) احتذاء الفاطميين والأمويين مثال العباسيين في العصر الذهبي
انتهج الخلفاء الفاطميون بمصر، والخلفاء الأمويون بالأندلس نهج الخلفاء العباسيين ببغداد؛ فلم يقتصروا على تعليم اللغة العربية وترويج آدابها في أصقاعهم، بل باروهم في جمع المخطوطات فطلبوها من مصادرها، وأنفقوا الصفر والبيض في سبيل البحث عنها والتقاطها، وأنشئوا لها في حواضرهم ومدنهم خزائن فاخرة، وحبسوا عليها أوقافا وافرة، وعينوا لها خزنة وقواما أمناء، وحشدوا فيها نساخا ومترجمين ومجلدين ومذهبين، ثم استنهضوا رعاياهم لتحصيل المعارف والآداب فاندفعوا إلى العمل بجد واجتهاد، فأفلحوا ونجحوا ونبغ منهم علماء أعلام وفلاسفة عظام.
14
وتواترت بين بغداد والقاهرة مسابقات في مضمار الثقافة ومنافسات في تشييد المدارس ومضاربات في اقتناء الكتب المفيدة،
15
وكاد يكون إنشاء المكتبات الخاصة والعامة مستلزما قصور الملوك وصروح الأمراء وبيوتات المشايخ والأغنياء، فكل قصر أو بيت خلا من مكتبة كبرى أو صغرى عد خاليا فارغا من أهم رياشه وأثمن محتوياته. والخليق بالذكر أن الدول الإسلامية أبرمت في سننها أن يضم كل مسجد من مساجدها خزانة كتب يؤمها الأدباء من كل صوب وحدب للمطالعة والاستفادة.
ومن أشهر تلك المساجد أو الجوامع: الجامع الأموي في دمشق، والمسجد الأقصى في القدس الشريف، والجامع الأزهر بالقاهرة، والجامع الأعظم في القيروان، وجامع الزيتونة في تونس، وجامع القرويين في فاس، وجامع النجف الأشرف، إلخ.
فلا غرابة إذا رأينا الكتبة والمؤرخين يطلقون على ذلك العصر لقب «عصر النهضة العربية الذهبي» أو «عصر العرب الذهبي»؛ إقرارا بجميل الخلفاء، وتنويها بفضلهم على الحضارة العربية. (7) تعزيز الفلاحة في العصر الذهبي
أدرك العرب أن الفلاحة من أقوى الدواعي إلى عمران البلاد وسعادتها، ومن أنجع الذرائع لإنقاذها من ضروب الأسواء البشرية كالمجاعات والقحط والغلاء، فراحوا يبحثون بحثا دقيقا مستمرا عن كتب تتناول ذلك الموضوع الخطير كيما يقرنوا علمهم بعملهم، وأول مؤلف سمعوا باسمه من هذا القبيل هو كتاب «الفلاحة النبطية» لابن وحشية الكلداني، وقد ترجم إلى اللسان العربي في صدر الخلافة العباسية. وروى ابن خلدون في مقدمة تاريخه: إن ابن العوام اختصر كتاب «الفلاحة النبطية» وإن مسلمة بن أحمد المجريطي نقل عنه أمهات من مسائله.
16
وغير خاف أن هذا الكتاب الثمين قد ضاع نصه السرياني الأصلي وحفظت ترجمته العربية، ولولا هذه الترجمة لتناولته أيدي الضياع وخسر العالم فوائده.
17
ومما تذرع به العرب لتعزيز شئون الفلاحة أو الزراعة في ما افتتحوه من البلدان أنهم ابتنوا على الأنهار أسدادا؛ ليحصروا المياه ويوفروا من كمياتها ما يلزم لري الأراضي، ومن مآثرهم الجلية أنهم شيدوا مقاييس عديدة على نهر النيل؛ ليسبروا غور مياهه ويعرفوا كميتها وكيفية توزيعها على الحقول والمزارع، وأشهر تلك المقاييس وأقدمها «مقياس الروضة» أمر ببنائه عام 76 للهجرة أسامة بن زيد التنوخي، ثم رممه الخليفة المأمون يوم ارتحل إلى مصر سنة 217 للهجرة، وعمر جامعا إلى جانبه. وفي سنة 246 للهجرة تولى إدارة المقياس عبد الله بن عبد السلام البصري في عهد المتوكل على الله (232-247ه)، وبعد وفاة ابن عبد السلام عام 279 للهجرة استمرت الولاية على المقياس في ولده.
وقد نقشت حول المقياس على رخام أربع كتابات عربية لازوردية؛ ففي جانبه الشرقي نقش ما نصه: بسم الله الرحمن الرحيم.
ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد ، ونقش في الجانب الشمالي:
وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج ، ونقش في الجانب الغربي:
ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة إن الله لطيف خبير ، ونقش في الجانب الجنوبي:
وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد .
18
وهناك على نهر النيل مقاييس أخرى نذكر منها مقياس أخميم ومقياس بنبودا في الصعيد وغيرها.
19 (8) انتشار علم الفلك في العصر الذهبي
كان لعلم الفلك شأن عظيم عند الخلفاء، يرجعون في جلائل الأمور إلى أربابه والمتخصصين به. وقد وضع أولئك العلماء بدورهم كتبا لا يحصى لها عدد، دلت على ذكائهم ونبوغهم، ومن تلك الكتب مخطوطات جمة حرص عليها السلف، وزينوا بها خزائن الكتب شرقا وغربا.
ويؤخذ من تلك المخطوطات أن «الكلدان» سبقوا جميع الأمم في علم الفلك كما يدل عليهم اسمهم السامي أي «رصد النجوم»، وكما قررته أقدم التواريخ وأصدقها،
20
وعن الكلدان أخذ الفرس فاليونان فالرومان فالعرب.
ومما اضطر العرب إلى الاعتناء اعتناء خاصا بعلم الفلك ارتباطه بالعبادات الإسلامية وعاداتها كتنظيم أوقات الصلوات الخمس، والاتجاه حين تلاوتها نحو الكعبة أو القبلة، وفرض الصوم والفطر في غرة هلال رمضان ومحاقه وسلخه.
21
ذلك كله حمل الخلفاء وفي مقدمتهم أبو جعفر المنصور على تقريب الفلكيين واستشارتهم والتعويل على آرائهم.
22
ثم أنشئوا المراصد الفلكية؛ تسهيلا لمهمتهم في أنحاء الملك الإسلامي.
وأشهر المراصد الفلكية التي أنشأها العرب في العصر الذهبي: مرصد سمرقند، ومرصد «شماسية» بقرب بغداد، ومرصد جبل قاسيون بجوار دمشق، وقد تحول بتوالي الزمان إلى منارة للتخاطب بالنار.
23
وابتنى الخلفاء مرصدا في الرقة على ساحل الفرات رصد فيه الكواكب أبو عبد الله محمد بن جابر بن سنان الحراني البتاني
24
مدة أربعين سنة (264-306ه) وتوفي عام 317 للهجرة. قال أبو الفرج بن العبري: «لا يعلم أحد من الإسلام بلغ مبلغ ابن جابر في تصحيح أرصاد الكواكب وامتحان حركاتها.»
25
وأثبت لالند
Lalande (1732-1807) الفلكي الفرنسي: «أن أبا عبد الله البتاني هو أحد الأئمة الفلكيين العشرين الذين اشتهروا في العالم.»
26
وشيد شرف الدولة بن عضد الدولة سنة 377 للهجرة مرصدا بطرف بستان دار المملكة، وتقدم إلى أعلام الفلكيين برصد الكواكب السبعة، واعتمد في ذلك على ويجن بن وشم أبي سهل الكوهي، وعلى أحمد بن محمد المنطقي الصاغاني المتوفى في بغداد سنة 379 للهجرة، وكان الصاغاني فاضلا في الهندسة وعلم الهيئة يحكم الآلات الرصدية ببغداد غاية الإحكام.
27
وأسس الفاطميون مرصدا في الفسطاط بمصر إزاء الروضة ليس بعيدا عن مسجد عمرو بن العاص.
28
وأقام الأفضل أمير الجيوش في عهد الخليفة الفاطمي الآمر بأحكام الله (495-524ه) مرصدا عظيما كلفه مشقة وافرة.
وجعل مركز ذلك المرصد على ارتفاع بجوار المقطم عرف قديما بالجرف، ولما أقيم فيه المرصد صار يعرف بالرصد.
29
ومن الثابت أن أول المراصد في أوروبا إنما شيده العرب في إشبيلية بالأندلس،
30
يضاف إليه مرصد آخر في الأندلس يقال له: «مرصد جيراك».
ومن المراصد الشهيرة مرصد مراغا بأذربيجان كان ناظره نصير الدين الطوسي المتوفى سنة 675 للهجرة، وكان حكيما، عظيم الشأن في جميع فنون الحكمة، واجتمع إليه في الرصد جماعة من الفضلاء المهندسين وأنشأ تصانيف كثيرة منطقيات وطبيعيات وإلاهيات.
31 (9) الطبابة والأطباء في العصر الذهبي
وجه الخلفاء العباسيون عناية خاصة إلى درس الطبابة وإتقانها وتعميمها.
فتقدموا بإحضار رهط من نوابغ الأطباء إلى دار السلام وفوضوا إليهم تجهيز الأدوية والعقاقير، ومعالجة المرضى في قصورهم وغيرها، وكلفوهم أن يلقوا الدروس الطبية في مدارسهم وينقلوا مؤلفات يونانية وسريانية إلى اللغة العربية؛ تعميما لفوائدها. فنهض أولئك الأطباء بخدمة الخلفاء وأركان الدولة خدمة أمينة أكسبتهم ثقة الخاصة واحترام العامة.
كان أولئك الأطباء - وأغلبهم من النصارى - يلازمون الخلفاء في بلاطهم، ويجلسون معهم إلى مائدة طعامهم،
32
ويداعبونهم ويحادثونهم طويلا ويضاحكونهم،
33
ويعالجون حظاياهم وسراياهم،
34
ويرافقونهم في حروبهم وأسفارهم،
35
ولهذا غلب عليهم - أعني على الأطباء - لقب «حكماء»؛ دلالة على حسن تدبيرهم وصائب فكرهم.
وكان الخلفاء بدورهم يجلون أطباءهم ويرحبون بهم ويسنون لهم أعطيات وافرة، ويعودونهم في بيوتهم حين مرضهم ويراسلونهم، وكانوا يتسمحون معهم في قضايا دينهم، ويحضرون أحيانا الصلاة عليهم بالشمع والبخور في جنازاتهم.
36
ومما يؤيد جزيل اعتبار الخلفاء لأطبائهم أن العزيز خليفة مصر كتب بخط يده رسالة إلى طبيبه منصور بن مقشر النصراني يهنئه فيها بنقاهته من مرضه، هذا نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم. طبيبنا سلمه الله سلام الله الطيب وأتم النعمة عليه. وصلت إلينا البشارة بما وهبه الله من عافية الطبيب وبرئه. والله العظيم لقد عدل عندنا ما رزقناه نحن من الصحة في جسمنا. أقالك الله العثرة وأعادك إلى أفضل ما عودك من صحة الجسم، وطيبة النفس، وخفض العيش بحوله وقوته.
37
هكذا ارتفع شأن الأطباء وعظم قدرهم حتى أصبحت لهم المنزلة العليا في جميع أنحاء الدولة. وقد خلفوا في صناعتهم هذه الشريفة آثارا مجيدة تشهد لهم بالبراعة وفرط الذكاء.
ولا ريب في أن تلك المزايا السامية حملت فريقا من المؤرخين على أن يعنوا بتأليف كتب وافرة دونوا فيها تراجم أولئك الأطباء، ووصفوا مناقبهم، وعددوا مؤلفاتهم ونوادرهم، وعلى سبيل المثال نذكر من تلك المؤلفات ما يلي: كتاب «أخبار الأطباء والمنجمين» ليوسف بن إبراهيم الحاسب المعروف بابن داية في أيام المأمون. وكتاب «تاريخ الأطباء»
38
لإسحق بن حنين (المتوفى 910م)، وكتاب «أخبار الأطباء» تأليف فثيون الترجمان النسطوري في القرن الثالث للهجرة، وقد ذكره ابن أبي أصيبعة أكثر من ثلاثين مرة في تاريخه، وكتاب «مناقب الأطباء» تأليف عبيد الله بن جبرائيل (المتوفى 1058م) ابن بختيشوع، وكتاب «دعوة الأطباء» للمختار بن الحسن بن عبدون البغدادي المعروف بأيونيس بن بطلان.
وقد تفرغ الوزير جمال الدين القفطي (568-646ه) لسرد أخبار الأطباء في كتابه «إعلام العلماء بأخبار الحكماء»، ثم توسع في ذكر أخبار الأطباء وتعداد مؤلفاتهم موفق الدين بن أبي أصيبعة المتوفى سنة 668 للهجرة في كتابه المشهور «عيون الأنباء في طبقات الأطباء» فسرد أخبارهم واحدا فواحدا، وعدد تآليفهم الوافرة تأليفا فتأليفا بعبارة جزلة دقيقة استحق لأجلها أجمل الثناء.
ولسنا نرى أن نغمض عن ذكر أبي الفرج بن العبري الذي شحن كتابه «تاريخ مختصر الدول» بذكر مشاهير الأطباء وطرائفهم منذ صدر الخلافة العباسية حتى أواخر القرن الثالث عشر للميلاد.
ومن أجلى الأدلة على رواج سوق الطبابة في العصر العربي الذهبي ألوف التآليف الطبية الباقية إلى هذا اليوم في المكتبات العامة والخاصة شرقا وغربا. وأدمغ برهان على ذلك أن كلية الطب بباريس حوت عام 1395 فهارس لمخطوطاتها الطبية العربية في اثني عشر مجلدا كلها مؤلفات لأطباء العرب. وكان لويس الحادي عشر ملك فرنسا (1461-1483) شديد القلق على صحته؛ فرغب أن تكون في خزانة قصره كتب محمد بن زكريا الرازي (320ه) الطبية، ولم يكن منها إذ ذاك في مكتبة كلية الطب الباريسية إلا نسخة واحدة، فاستعارها الملك بشرط أن يردها، وقد فعل.
وحسب العرب فخرا أن الدول الأوربية اتخذت كتبهم الطبية دستورا للتدريس في جامعاتها التي سيطر عليها الفكر العربي منذ القرون الوسطى، فنقلت المؤلفات العربية إلى اللغات الأوربية، وظلت الجامعات تدرسها حتى السنة 1650 للميلاد. وأقدم تلك الجامعات جامعة مدينة «سالرنو» بإيطاليا في القرن الحادي عشر للميلاد، وتأسست بعدها جامعات غيرها في بالرمو وبادوا ومونبلية وباريس وبولونيا، إلخ. (10) المارستانات في العصر العربي الذهبي
لم يكتف العرب بالإنتاج النظري في العلوم الطبية، بل استخدموا علمهم أيضا في معالجة المرضى، وتخفيف آلامهم وتأمين راحتهم،
39
فأنشئوا لذلك مستشفيات أو مصحات أطلقوا عليها لفظة «مارستان» من «بيمارستان» الفارسية، وشيدوها في عواصمهم وكبريات مدنهم كمكة المكرمة، والمدينة المنورة، ودمشق عاصمة الأمويين، وبغداد عاصمة العباسيين، والقاهرة عاصمة الفاطميين، والقدس الشريف، وأنطاكية، والري، وسمرقند، وغيرها. ثم عينوا لكل مارستان أوقافا غنية ينفق ريعها في سبيل المرضى والأطباء والأدوية والممرضين، وفوضوا أمرها إلى مدراء أكفياء انتقوهم من أمراء البلاد أو من قواد الجيش أو من سراة القوم.
وأقدم مارستان إسلامي ورد ذكره في التاريخ هو مارستان الفسطاط بالقاهرة ، ابتناه الخلفاء الأمويون إزاء دار عمرو بن العاص بجوار الجامع المشهور باسمه.
40
وكان مركزه في زقاق القناديل شرقي الجامع المشار إليه، واشتمل هذا الزقاق أيضا على سوق للكتب والدفاتر والظرائف وغيرها.
41
وابتنى الخلفاء العباسيون مارستانا كبيرا في بغداد عاصمتهم، وأقاموا له مدراء وأطباء مشاهير، نذكر منهم الحكيم الشهير محمد بن زكريا الرازي المتوفى سنة 320 للهجرة، وكان الرازي في أول أمره متوليا إدارة المارستان في الري، ثم انتقل إلى دار السلام وتولى إدارة «المارستان المقتدري» نسبة إلى الخليفة المقتدر بالله (295-320ه)، ومما يذكر بالشكر والثناء لهذا الطبيب النبيل أنه جمع إلى الطبابة معرفة علوم القدماء «وكان كريما متفضلا، بارا بالناس، حسن الرأفة بالفقراء والأعلاء حتى كان يجري عليهم الجرايات الواسعة ويمرضهم.»
42
وابتنى العرب مارستانات خاصة بذوي الأمراض العقلية، أشهرها مارستان بلنسية بالأندلس. وقد قرر المؤرخون أن للعرب فخرا في معاملة أولئك المرضى بالرفق والشفقة، بينما كان «المجانين» في أوروبا يعذبون ويضطهدون ويعاملون معاملة المجرمين. وما عدا المارستانات الخاصة فقد أسس العرب مارستانات عامة في معظم المدن الأندلسية كقرطبة وإشبيلية وغرناطة وطليطلة ومرسية والمرية ومالقة وغيرها من المدن العامرة. وكان نظام تلك المارستانات وافيا محكما على نسق لم تألفه أوروبا قبل ذلك العهد.
43 (11) متحفة الحشرات في العصر العربي الذهبي
أول من أنشأ هذا النوع من المتاحف عربي قح بلا جدال، وقد جرى ذلك في القرن الرابع للهجرة والعاشر للميلاد، ومما لا شبهة فيه أن الفرنج لم يعرفوا متاحف الحيوانات والحشرات ولم ينشئوا لها معاهد أو حدائق خصوصية إلا في نواحي القرن السابع عشر للميلاد. بناء عليه نقول القول الفصل إن العرب سبقوا الفرنج في هذا المضمار كما سبقوهم في أمور أخرى يطول شرحها.
فإلى العرب إذن يعود الفضل في إنشاء أول متحفة للحشرات والدويبات ونحوها. وقد أنشأها أبو الفضل جعفر (308-391ه) المشهور بابن حنزابة الوزير المحدث البغدادي نزيل مصر.
44
وتقلد أبو الفضل هذا وزارة مصر في عهد كافور الإخشيدي المتوفى سنة 357 للهجرة (968م) ودفن في القرافة الصغرى.
45 (12) رواج سوق العلماء وتعدد مصنفاتهم في العصر الذهبي
يتعذر علينا في هذا المقام أن نحصي أسماء جميع الكتاب الذين لمعوا في العصر العربي الذهبي ونستقصي أخبارهم ونعدد مؤلفاتهم؛ لأن ذلك يستلزم بحثا طويلا لا شأن لنا فيه الآن، إنما نكتفي بالإشارة إليه استكمالا للموضوع الذي نحن في صدده.
فإذا ألقينا نظرة عامة على العصر العربي الذهبي رأينا مئات من حملة الأقلام لم يتركوا بابا من أبواب المعارف إلا طرقوه وصنفوا فيه كتبا جمة تفوق حد الكثرة. هكذا راجت سوق الآداب في عواصم الدول العربية، وسالت قرائح العلماء في سائر أطرافها.
وحسبنا أن نذكر من أولئك الأعلام على سبيل المثال: الجاحظ، والصاحب بن عباد، وابن النديم، وابن رشد، والخليل، وحنين بن إسحق، والفارابي، والغزالي، وأبا الريحان البيروني، وغيرهم. ونخص بالذكر منهم الأصمعي (739-829م) الذي استظهر اثني عشر ألف أرجوزة وأربى عدد مؤلفاته على الأربعين. وخلف ثابت بن قرة (740-820) الحراني مائة وعشرين كتابا. وكان أبو تمام يحفظ أربعة آلاف أرجوزة غير القصائد والمقاطيع. وبلغت مؤلفات يعقوب الكندي (المتوفى 861م) فيلسوف العرب مائتين وأربعين مؤلفا. وكان أبو الفرج الأصبهاني (898-966م) يستصحب في أسفاره وتنقلاته حمل ثلاثين جملا من كتب الأدب ليطالعها. واعتنى العلماء بديوان أبي الطيب المتنبي (916-966م) فشرحوه أكثر من أربعين شرحا ما بين مطولات ومختصرات. وكان أبو بكر الخوارزمي (929-992م) يحفظ أكثر من عشرين ألف بيت من شعر العرب. أما الشيخ الرئيس ابن سينا (المتوفى سنة 1036م) فقد بلغت مصنفاته اثنين وتسعين كتابا.
46
وألف أبو علي بن الحسين بن الهيثم المهندس البصري نحو سبعين كتابا في الهندسة.
47
وكان يكتب كل سنة ثلاثة كتب يبيعها بمائة وخمسين دينارا (وتوفي عام 1029م). وكان أبو العلاء المعري (974-1058م) يملي على بضع عشرة محبرة في فنون من العلوم، وقد نظم الشعر وهو في الحادية عشرة من سنه، ولما توفي قرئ على قبره سبعون مرثية.
48
ونسخ ابن الجوزي (1117-1202م) كتبا جمة ذهب المغالون في عدها، فقالوا: «لو جمعت الكراريس التي كتبها، وحسبت مدة عمره، وقسمت الكراريس على المدة التي عاشها، كان ما خص كل يوم من حياته تسع كراريس.» وأنافت مصنفات موفق الدين عبد اللطيف (1161-1231م) على المائة والستين، وكان في النهار يقرئ الناس بالجامع الأزهر، وكان في الليل يشتغل على نفسه. وبلغت مصنفات تقي الدين بن تيمية (1263-1328م) خمسمائة مؤلف. وناهزت مصنفات جلال الدين السيوطي (1446-1505م) نحوا من أربعمائة مصنف!
ذلك كله يدل دلالة واضحة على ما بلغت إليه النهضة العربية في عصرها الذهبي من المقام الرفيع لا ما بين الأمة العربية فحسب بل ما بين أمم العالم طرا. تلك حقيقة جلية ناصعة أيدها كل من له إلمام بتاريخ العرب وآثار خلفائهم وأخبار أعلامهم وأدبائهم. فسبحان الله الرزاق الكريم
والله خير الرازقين .
49
صفحة غير معروفة