الفصل الحادي عشر
ظهور الوجودية
سورين كيركجورد (1803-1855م)
لم يظهر في إنجلترا أو الولايات المتحدة أي اهتمام جدي بكيركجورد من حيث هو فيلسوف إلا منذ الحرب العالمية الثانية، عندما تنبه الجميع، حتى المجلات الإخبارية الأسبوعية، إلى مذهب جديد غريب في الفلسفة الأوروبية اسمه «الوجودية». بل إن تواريخ الفلسفة المعتمدة لا تذكره حتى اليوم إلا لماما، وعندما تذكره، فإنها لا تشير أبدا إلى أنه ربما كان واحدا من «عظماء» الفلسفة في القرن التاسع عشر. وما زال الجدل دائرا حول المزايا الكامنة لأفكار كيركجورد الفلسفية، غير أن أحدا لم يعد يستطيع إنكار أهميته التاريخية؛ إذ إن كتاباته كانت بمثابة الطليعة لحركة من أقوى الحركات الفلسفية أثرا في عصرنا.
ولقد كان هذا من الأسباب التي جعلتني أرى من الضروري إدراجه في هذا الكتاب، وإن يكن هناك سبب آخر هو أنه مظهر لصورة أخرى اتخذتها أزمة العقل منذ عصر كانت.
ولقد كان كيركجورد من أشد الكتاب قدرة على المخادعة في عصر كان يلائمه جدا إطلاق اسم عصر الغموض عليه . وكانت كتاباته أصعب حتى من كتابات نيتشه ذاتها، من حيث إمكان عرضها وتحليلها بطريقة منهجية منظمة. وليس معنى ذلك أن كيركجورد يفتقر إلى البراعة الأدبية، بل لقد كان، بعكس ذلك، مغرما إلى أبعد حد بتجميل أسلوبه، وهو قطعا من أعظم الساخرين العقليين في تاريخ الأدب الحديث؛ ففي وسعه إذا شاء أن يكون ناقدا فلسفيا عميقا، كما حدث حين وجه ديالكتيكية المضاد المدمر ضد هيجل، ولكنه عادة لا يدلي بحجج لدعم رأيه على الإطلاق، وإنما يعرض رأيه فحسب. وكما قال لي حديثا فيلسوف بارز من أكسفورد، فإن كيركجورد ليس من أولئك الفلاسفة الذين يمكنك أن تمارس عليهم عملية صقل ذكائك. وهو في هذا الصدد أشبه بشاعر يقدم إلى قارئه عالما روحيا جديدا غريبا، يتعين عليك أن تحيا وتتنفس فيه مؤقتا إذا شئت أن تفهمه. وكيركجورد، مثل سقراط، هو أيضا نوع من «ذباب الدواب» الذي يظل يلسع قراءه حتى يؤدي العملية الأساسية للمعرفة الذاتية. ولكن المهمة الشاقة تقع على عاتقك أنت، أيها القارئ، وكل ما يفعله كيركجورد أو يحاول أن يفعله هو أن يصدمك بحيث تواجه حقيقة وجودك بوصفك كائنا واعيا. وبالاختصار فليس لدي كيركجورد مذهب يعرضه أو نظرية يدافع عنها، بقدر ما لديه من مسلك في الحياة وإحساس ومنظور يريد من قارئه أن يشاركه إياه إذا كان على استعداد لبذل الجهد اللازم.
وربما كان أول ما ينبغي أن يقال عن وجهة نظر كيركجورد - وإنها لوجهة نظر أكثر من كونها «فلسفة» بالمعنى التقليدي - هو أنه يشترك مع نيتشه في تقززه الشديد من العالم البرجوازي المريح، المنافق، التقدمي الذي عاش فيه. بل إن نيتشه ذاته لم يحمل على المسيحية التاريخية الموضوعة في قوالب منظمة بمرارة أشد مما حمل بها عليها كيركجورد، المؤمن بالمسيحية. ونظرا إلى ولائه الشديد للأناجيل، فقد حمل على الكنيسة القائمة بوصفها مجرد نظام رسمي محترم يقف في وجه هذا التقدم الروحي للفرد المسيحي. وهو يرفض تماما ادعاء الكنيسة أنها الخليفة الحقيقية لمسيحية الحواريين.
ولكن كيركجورد يحتفظ بأقوى حملاته لمحاولة هيجل تفسير التراث المسيحي وتبريره بطريقة عقلية مثالية؛ فهذا في رأيه، أوضح أعراض العلة العقلية التي تعانيها الفلسفة الحديثة. فهيجل لا يقدم إلينا إلها حيا، وإنما عرضا ديالكتيكيا تاريخيا للأسطورة المسيحية، مهمته الوحيدة هي تحديد الموقع الذي يرابط فيه الناس في مجرى التاريخ. ولم يكن الوعي التاريخي الذي طالما افتخر به هيجل، في نظر كيركجورد، وسيلة لزيادة المرء فهمه لموقفه الخاص بوصفه موجودا حيا، وإنما كان قبل كل شيء هروبا من هذا الموقف. وكما رأينا من قبل، فقد اعترض هيجل ذاته على صفة التجرد الباطلة المزعومة التي اتصف بها منطق أرسطو الشكلي التقليدي، واعتزم أن يستبدل به منطقا حقيقيا للفكر أو الوجود (وهما بالطبع يعنيان في نظره شيئا واحدا). وهكذا تصور أنه يستطيع بهذا المنطق الديالكتيكي وحده أن يكون لنفسه فكرة صحيحة عن حقيقة التغير. واعتقد أن الطريقة الوحيدة التي تتيح لنا إدراكا عينيا لطبيعة عملية ما، هي النظر إليها بطريقة ديالكتيكية من خلال شبكة للعلاقات التاريخية متزايدة الاتساع. أما من وجهة نظر كيركجورد، فإن كل ما قام به هيجل فعلا هو إدماج الوجود الخاص للفرد في ذلك التجريد الشامل لكل التجريدات؛ أي المطلق، الذي يضيع فيه نهائيا كل أثر باق للوجود العيني. ومما يدعو إلى السخرية حقا أن هيجل لا يترك لنا آخر الأمر إلا تلك المنطقية الشاملة
pan-logism
التي يتضح أن الحقيقة الوحيدة فيها هي الحركة اللاشخصية للديالكتيك ذاته. أما كيركجورد فيتحدث عن تفكيره على أنه «ديالكتيك كيفي»، ويعني بذلك ديالكتيكا يرفض أي ادعاء بتفسير الانتقال من قضية إلى نقيضها على أنه لحظة ضرورية في عملية تطور مستمرة. والواقع أن ديالكتيك كيركجورد لا شأن له على الإطلاق بالمنطق بمعناه المألوف. وهو، إذا جاز هذا التعبير، «منطق نفساني
صفحة غير معروفة