ولم يكن دارون هو المفكر الذي استوحاه سبنسر في ميتافيزيقاه التطورية، وإنما استوحى الفيلسوف المثالي الألماني «شلنج
Scheling »؛ فقد رأى هذا الأخير أن عالم الحياة العضوية يكشف عن مسار نحو المزيد من التنوع والتنظيم والتفرد. وبدا أن أفكار شلنج النظرية قد وجدت ما يؤيدها في أبحاث عالم الأجنة «فون باير
K. E. von Baer » الذي تقدم بالفرض القائل إن التغيرات التركيبية الحادثة في نمو كل الأجنة تكشف عن تطور تدريجي من أشكال لا محددة متجانسة إلى أشكال أكثر تحددا وأقل تجانسا. وقد بدا من الواضح في نظر سبنسر أن هذا التطور ينبغي ألا يقتصر على صور الحياة وحدها، وإنما يمكن أن يعزى أيضا إلى العمليات غير العضوية بدورها، وحاول دعم رأيه ذي الطابع الأعم بأمثلة متعددة مستمدة من العلوم الطبيعية.
غير أن سبنسر كان يعتقد أن لعملية المسار التطوري الشامل هذه وجها آخر بالإضافة إلى ذلك؛ فهناك اتجاه آخر يعوض تأثير عملية التنوع أو التفاضل، هو اتجاه إلى التكامل، وإلى إعادة تشكيل العمليات المتفاضلة بالتدريج في مجموعات كلية جديدة ذات طابع أشمل. فهو يرى أن التعقد والتفرد المتزايد للأنواع العضوية، الذي يبلغ مداه في الإنسان، يعوضه اتجاه آخر في الحياة البشرية نحو التكامل المتزايد للسلوك عن طريق العقل. كما أن التنوع أو التفاضل التطوري الذي يتمثل على المستوى الاجتماعي في التقسيم المتزايد للعمل البشري، يعوضه، كلما تقدمت المجتمعات، ذلك التكامل التدريجي للأفراد في تجمعات بشرية أشمل وأوثق في ترابطها العضوي. فإذا كان هذا كله يدخل في باب الميتافيزيقا، فإنه على أية حال من قبيل المتافيزيقا ذات الاتجاه التجريبي، التي تبنى بطبيعتها على أدلة مستمدة من العلوم التجريبية. وهي تبدو، من وجهة نظر معينة، أشبه بقصة نجاح كبرى في ميدان الكونيات، وتوجد مبررات للنظرة الذائعة إلى سبنسر على أنه مجرد رسول يدعو إلى ذلك الوهم الهائل الذي عرف به القرن التاسع عشر، ألا وهو «التقدم». وما أسهل أن نتصور ناقدا معاديا يطلق على تفسيره لفلسفة سبنسر عنوان «من الفوضى الشاملة إلى الكون المنظم، أو إنجيل التقدم الشامل». غير أن في مثل هذا التفسير إجحافا؛ فسبنسر كان يماثل معظم زملائه من مفكري العصر الفيكتوري في أنه لم يغفل ما للمسار التطوري للتاريخ من أوجه منفرة. ولقد أدرك جيدا أن التغير عملية تحلل مثلما هو عملية تطور، وعملية تفكك مثلما هو عملية تكامل. وفي هذا لم يكن سبنسر وحيدا؛ فيبدو أن جميع فلاسفة الارتقاء والتطور والتقدم، الذين ينظرون إلى الحياة والنظم البشرية من خلال صورة التاريخ لا الأزل، يأتي عليهم وقت ينادون بنفس نغمة العرضية والتحولية والصراع الكامل في كل ما هو إنساني. فمن وراء التباهي والتفاؤل الظاهريين، والوثوق الساذج، الذي نضفيه عادة على العقلية الفكتورية، يوجد دائما شيء قريب جدا من الخوف، وهذا أمر لا ينبغي أن يعجب له أحد؛ إذ إن الصورة الرائعة للمسار التطوري هي أيضا صورة للصراع العنيف من أجل البقاء.
ولقد تأثر سبنسر ودارون معا بمالتوس،
3
الذي تحوي نظريته عن السكان، إذا ما قرئت على نحو معين، نبوءة مخيفة عن مستقبل الجنس البشري. ففي رأي سينسر أن ضغط السكان، الذي يسبق على الدوام زيادة موارد العيش، هو «السبب القريب للتقدم»؛ إذ يرغم الناس على تعمير أراض جديدة، وعلى التخلي عن عادات القنص الوحشية، وتعلم حرف تربية الحيوانات والزراعة، وتحسين أساليب الإنتاج، واتخاذ المواقف «الأخلاقية» التي تحفظ الأمن والنظام الجماعي. ومع ذلك فإن السؤال الملح هو ما إذا كان التقدم التدريجي قادرا، بصفة دائمة، على تعويض أثر الاشتداد التدريجي لصراع الفرد في سبيل البقاء، وهو الصراع المتولد عن الزيادة المستمرة في السكان. وعلى أية حال فإن نظرية سبنسر القائلة بمسار شبه دائري، لا توحي بإجابة تفاؤلية صريحة.
وفي وسع فلسفة سبنسر أن تدعي على الأقل بأن عيوبها مقترنة بمزايا معينة، فإذا بدت تلك الفلسفة «متصنعة»، بالمعنى المجازي، فإنها تكشف أيضا عن الاهتمام الجدي الأكبر للفيلسوف، بالتنظيم المنهجي. والواقع أن من أروع سمات فلسفة سبنسر محاولته المنهجية لتطبيق نظريته العامة في المسار التطوري، وإثبات خصبها بطريق غير مباشر، في ميداني النظرية الاجتماعية والأخلاق. فهنا أيضا نجد سبنسر يقوم بدوره المميز، دور الوسيط بين وجهتي نظر متعارضتين؛ ولذلك فإنه يقف في هذه المجالات موقفا وسطا إلى حد ما، بين النزعة النفسية والفردية المتحررة عند مل، والنزعة الجماعية والاجتماعية عند كونت وهيجل.
ويقترح سبنسر قانونا ذا مراحل ثلاث للتطور الاجتماعي، مثله في ذلك مثل كونت، وإن كان قد أدخل تعديلات طريفة خاصة به؛ في المرحلة الأولى لا توجد أنماط أو طبقات اجتماعية محدودة المعالم، وإنما تكون المجتمعات ما زالت صغيرة، ويكون نمط التنظيم الاجتماعي متجانسا وغير متنوع نسبيا، حيث يؤدي كل فرد أو كل أسرة كل شيء لنفسه أو لنفسها. والمرحلة الثانية ذات طابع «عسكري»، تكون الحكومة فيها فائقة التركيز وملكية في العادة، ويكون العرف صارما والفروق الطبقية واضحة والعقيدة متسلطة. وأخيرا تأتي مرحلة تتميز بها المجتمعات الصناعية الحديثة، يتزايد فيها تقسيم العمل، ويزداد الاهتمام بالتجارة والإنتاج، ويتضاءل دور الحكومات المركزية، وتضعف بالتدريج النظم الاجتماعية التقليدية المتسلطة. وقد رأى سبنسر أن حضارة إنجلترا في القرن التاسع عشر تقترب تدريجيا من هذا النظام، بما فيه من تقدم علمي وتكنولوجي سريع، ومن تجارة حرة عالمية، ونظم سياسية واجتماعية متزايدة التحرر، تحدد فيها العلاقات البشرية بالاتفاق أو التعاقد، لا بالمركز الموروث أو الوظيفة.
وعلى حين أن مل قد ازداد ميلا إلى الاشتراكية في السنوات الأخيرة من عمله، فإن سبنسر لم ينظر إلى الاشتراكية على أنها هي التطور التالي للمجتمع، الذي سيخلف ديمقراطية النظام الحر والاقتصادي الفردي، وإنما رأى فيها ناتجا فرعيا للنمط العسكري الإقطاعي للمجتمع. ولم يدهشه على الإطلاق أن يرى في ألمانيا زعيما ذا نزعة استبدادية شخصية مثل بسمارك يحبذ نوعا من اشتراكية الدولة؛ فالاشتراكية في رأيه تخلق مجتمعا كمجتمع النمل والنحل، يتم فيه آخر الأمر حشد جهود الأفراد وتعبئتها على نحو تام الاطراد. وقد تنبأ، ببصيرة نفاذة، بأن البيروقراطية في المجتمع المصطبغ بالصبغة الاشتراكية ستؤدي إلى نوع جديد من الأرستقراطية، أقوى من أي نوع ظهر من قبل، تضطر فيه الجماهير إلى العمل في سبيلها على الدوام ودون جزاء حقيقي.
صفحة غير معروفة