ولم يكن دارون هو أول من قال بمفهوم التطور، ولكنه كان أول من جعل لنظرية التطور العلمي أساسا علميا، وكان مؤلفاه العظيمان: «أصل الأنواع»، و«السلالة المؤدية إلى الإنسان
The Descent of Man »، هما اللذان رفعا في نهاية الأمر راية المنهج التطوري. ولم يكن دارون ذاته فيلسوفا، وإنما اكتفي بأن ترك غيره يستخلص النتائج الفلسفية لفروضه العلمية. ولقد كانت الأفكار الرئيسية في نظريته معروفة منذ وقت بعيد. ومن أمثلة هذه الأفكار، الصراع من أجل الحياة، وقابلية الأنواع للتغير، والانتقاء الطبيعي، وتوارث الصفات المساعدة على الاستمرار البيولوجي، وتسلسل الإنسان من نوع أدنى منه من الحيوانات الراقية. وكان دور دارون هو جمع كل هذه الأفكار في نظرية موحدة كانت تهدف إلى تفسير تطور كل الكائنات الحية من خلال علل طبيعية.
ولم يكن دارون يقصد من «الصراع من أجل الحياة» نظرية غائية تنسب إلى كل الكائنات العضوية غرضا أو إرادة للحياة، وإنما كان ذلك في نظره تعبيرا مجازيا لا يقصد منه إلا الإشارة إلى الحقائق الملاحظة التي تدل على أن كل حياة تعتمد دوما على البيئة الطبيعية، وعلى أن الأشياء الحية تتجه في مثل هذه البيئة إلى التنافس من أجل البقاء. وفضلا عن ذلك فالصراع من أجل الحياة إنما هو وجه واحد فقط من أوجه ظاهرة عضوية عامة، هي التكيف العضوي مع بيئة تتضمن ظروفا مادية متغيرة، وكذلك تكيفا متنافسا للأنواع. أما «الانتقاء الطبيعي» فلم يقصد منه دارون إلا الطريقة التي تشجع بها البيئة في مجموعها صفات معينة، وتحبط صفات أخرى، بحيث تحفظ التغيرات النوعية المؤدية إلى البقاء، بينما تختفي تلك التي تعرض البقاء للخطر.
أما الشعار المشهور «البقاء للأصلح»، فلم يقل به دارون، وإنما قال به هربرت سبنسر. فلقد كان دارون ذاته حريصا على تجنب أية نتائج أخلاقية مزعومة لنظرياته، ولم يكن مما سعى دارون ذاته إلى إثباته ذلك الرأي الشائع المنسوب إلى من يسمون ب «الداروينيين الاجتماعيين»، والقائل إن الأقدر على البقاء هم الذين يستحقون البقاء. كذلك كان دارون حريصا كل الحرص على التزام حدود فرضه؛ فهو لم يدع لنفسه القدرة على تفسير أصل الحياة ذاتها، ولم يقل إنه يعرف بدقة أسباب تلك التنوعات التي تكون هي العامل الأصلي في تحديد مختلف الأنواع العضوية. ولقد رفض تلك النتيجة التي حاول البعض استخلاصها من نظريته، ألا وهي أن الأنواع «العليا» أفضل تكيفا مع بيئتها من الأنواع «الدنيا». وكانت مهمة معاصره هربرت سبنسر هي أن يستخلص النتائج الفلسفية الرئيسية للنظرية التطورية؛ فعلى يديه تحولت تلك النظرية إلى مركب ضخم للمعرفة البشرية، له فلسفته الخاصة في الكونيات والأخلاق والسياسة.
ولا يكفي لتحديد موقع فلسفة سبنسر أن نبحث في صلاته بدارون، بل ينبغي أيضا أن نضع هذه الفلسفة مقابل الفلسفات السابقة عليها، ولا سيما فلسفة هيجل وكونت؛ فقد وضع كل من هيجل وكونت نظريات عن مسار التاريخ، غير أن اهتمامهما كان منصبا في المحل الأول على مسار الأفكار والنظم البشرية. ولم يبد أي منهما اهتماما جديا بالمسائل الكونية، كما لم يبذل أي منهما محاولة جدية لوضع قوانين شاملة لمسار التاريخ، لا تنطبق على تقدم الأفكار والنظم البشرية فحسب، وإنما تنطبق أيضا على الحياة في مجموعها، بل على الكون المادي بأسره. والواقع أن معظم فلاسفة القرن التاسع عشر قبل سبنسر، لم يكونوا يكترثون بالمسائل الكونية التي طالما اهتم بها الفلاسفة في القرن السابع عشر. وكانت النظرية التطورية هي التي حفزت مرة أخرى خيال الفلاسفة إلى الانطلاق بحرية خلال الكون في مجموعه، وإلى وضع نظرة شاملة إلى العالم من خلال مفهوم المسار التطوري.
ويشير التقابل بين سبنسر وكونت بكل وضوح إلى طريقتين مختلفتين أثر بهما العلم الحديث في الفلسفة؛ ففي نظر كونت، وكذلك معظم الوضعيين، كان أهم ما في العلم من الوجهة الفلسفية هو المنهج، وكما رأينا من قبل، فقد كانت الوحدة الوحيدة للعلم، التي دافع عنها كونت، هي وحدة المنهج.
أما سبنسر، الذي وصف نفسه بأنه فيلسوف علمي أيضا، فقد كان موقفه من العلم مختلفا؛ فهو يرى، مثل كونت، أن المنهج العلمي هو، بمعنى واسع، المنهج الوحيد للمعرفة البشرية. وبين فلسفته وبين الوضعية والتجريبية أوجه شبه كثيرة ، غير أن ما أعجبه في العالم لم يكن منهجه فحسب، وإنما صورة العالم ومركز الإنسان فيه كما توحي بهما الفروض الأساسية في العلوم الفيزيائية وفي العلوم البيولوجية على وجه أخص. وربما كانت «فلسفته التركيبية» منظورا إليها في مجموعها، أعظم جهد بذله واحد من فلاسفة القرن التاسع عشر لتنظيم وتشكيل المعرفة العلمية الموجودة في عصره في مركب فكري ضخم يسعى إلى تقديم وصف شامل للعالم الطبيعي بأسره.
وإذن ففلسفة سبنسر تتصف أساسا بالنزعة الطبيعية والمادية، لا بالنزعة الوضعية. وهي تنتمي في هذا الصدد إلى التراث المادي الضخم للفيلسوفين لوكريتيوس
1
وهز،
صفحة غير معروفة