إن كل مديح يزجى إلى المدنية أو الفن أو العقل المبتكر، إنما هو في الآن نفسه ذم للطبيعة، واعتراف بالنقص الذي يتعين على الإنسان، تحقيقا لرسالته وبلوغا لكماله، أن يسعى على الدوام إلى إصلاحه أو تقويمه.
ولقد أدى الشعور بأن كل ما يفعله الإنسان لتحسين حاله هو في الآن نفسه كبت وإحباط للنظام التلقائي للطبيعة، أدى هذا الشعور في كل الأزمان إلى إلقاء ظل من الشك الديني في مبدأ الأمر على المحاولات الجديدة المبتكرة لتحسين هذه الحال؛ إذ نظر إلى هذه المحاولات على أن فيها تحديا، وربما إهانة، للكائنات ذات القدرة (أو إلى الموجود القادر على كل شيء، عندما حل التوحيد محل تعدد الألوهية)، التي يفترض أنها تسيطر على مختلف ظواهر الكون ، والتي كان ينظر إلى مجرى الطبيعة على أنه تعبير عن إرادتها. وهكذا كان من السهل أن تبدو أية محاولة لتسخير الظواهر الطبيعية من أجل راحة البشر، تدخلا في تحكم هذه الكائنات العليا، ورغم أنه كان من المستحيل الاحتفاظ بالحياة - ناهيك بإعلائها - دون تدخل دائم من هذا النوع، فقد كان كل تدخل جديد يقترن حتما بالرعب والرعدة، حتى تثبت التجربة أن من الممكن ممارسته دون جلب نقمة الآلهة. ومع ذلك فما زالت هناك فكرة غامضة مؤداها أنه رغم أن السيطرة على هذه الظاهرة الطبيعية أو تلك أمر مستحب، فإن النظام العام للطبيعة إنما هو أنموذج لنا نحتذيه، وإننا مع ممارستنا لقدر، قل أو كثر، من الحرية في التفاصيل، ينبغي علينا أن نسترشد في سلوكنا عامة بروح السلوك الطبيعي واتجاهه العام. وإن هذه أمور من صنع الله، ومن ثم فهي كاملة، وإن الإنسان لا يستطيع منافسة كمالها المعجز، وإن أكثر ما يستطيع به أن يظهر قدرته وتقواه، هو أن يحاول الإتيان بمثيل لها، مهما كان نقص المحاولة. وإنه إذا لم تكن إرادة الخالق تتبدى في نظام الطبيعة التلقائي كله، فإنها تتبدى على الأقل، بمعنى خاص، في أجزاء خاصة منه، تختار وفقا لهوى المتحدث، وتكون بالنسبة إليه أشبه بإشارات الطريق تدل على الاتجاه الذي قصد من الأشياء عامة، وبالتالي من أفعالنا الإرادية، أن تسير فيه. هذا النوع من الآراء، وإن يكن المجرى المضاد للحياة يكبته في الظروف المعتادة، يظل على استعداد للانطلاق كلما صمت العرف، ولم تجد الهواجس الكامنة في الذهن شيئا يعارضها سوى العقل، وهكذا نجد أهل البلاغة يستشهدون على الدوام بمثل هذه الآراء، فتكون النتيجة هي أنه إذا لم يقتنع الخصوم، فسوف تطمئن على الأقل نفوس أولئك الذين يعتنقون من الآراء ما يرغب أهل البلاغة في نشره.
فإذا كانت هذه الفكرة القائلة بمحاكاة أساليب العناية الإلهية كما تتبدى في الطبيعة، لا تجد إلا في أحوال نادرة تعبيرا صريحا مباشرا عنها بوصفها قاعدة للسلوك تنطبق بشكل عام، فإنها أيضا لا تجد من يناقضها إلا في أحوال نادرة. وهكذا تجد من يصادفونها في طريقهم يفضلون الالتفاف حول العقبة بدلا من مهاجمتها؛ إذ إنهم هم أنفسهم ليسوا في كثير من الأحيان متحررين من هذا الرأي، وهم على أية حال يخشون أن يجلبوا على أنفسهم تهمة الزندقة إذا ما قالوا شيئا قد يعد مزريا بآثار قدرة الخالق. وهكذا تجدهم في معظم الأحيان يحاولون أن يبينوا أن لديهم من الحق في الحجة الدينية مثل ما لخصومهم، وأنه إذا كان المسلك الذي يوصون به يبدو متعارضا مع بعض أساليب العناية الإلهية، فإنه في جزء آخر منه يتفق معها على نحو أفضل مما تتفق عليه معها مزاعم خصومهم، وفي مثل هذه الطريقة في معالجة المغالطات الأولية الكبرى، يؤدي تقدم الفهم إلى محو أخطاء معينة، على حين تظل أسباب الخطأ على ما هي عليه، ولا ينالها من أي نزاع إلا أقل سوء. ومع ذلك فإن السلسلة الطويلة من هذه الانتصارات الجزئية تؤدي إلى تراكم السوابق التي يمكن الاستعانة بها ضد هذه الأفكار السابقة الراسخة، والتي تعطينا أملا متزايدا في أن يجيء اليوم الذي يضطر فيه الرأي الباطل، بعد أن كثرت مرات تراجعه، إلى التسليم دون قيد ولا شرط. إذ إنه مهما بدت تلك القضية جارحة لشعور المتدينين، فمن واجبهم أن يقبلوا دون مواربة مواجهة الحقيقة الصريحة القائلة إن نظام الطبيعة، بقدر ما تظل بمنأى عن تدخل الإنسان، له صفات يستحيل معها أن يكون كائن عادل رحيم قد صنعها بقصد أن يجعل مخلوقاته العاقلة تتخذ منها مثلا يحتذى. فإذا كانت الطبيعة كلها من صنع مثل هذا الكائن، ولم تشترك في صنعها كائنات لها صفات مختلفة كل الاختلافات، فلا يمكن إلا أن تكون عملا ترك ناقصا عن عمد، يتعين على الإنسان، في مجاله المحدود، أن يمارس العدل والرحمة في تقويمه. والواقع أن أفضل الناس كانوا يرون دائما أن جوهر الدين هو في أن يجعل أسمى واجب للإنسان على الأرض إصلاح ذاته، ولكنهم جميعا، باستثناء المترهبنين السلبيين، قد أضافوا إلى ذلك، في قرارة أنفسهم (وإن لم يكونوا في معظم الأحيان على استعداد للجهر بذلك بنفس القدر من الوضوح) واجبا دينيا آخر هو إصلاح العالم، لا في جزئه البشري فحسب، بل في جزئه المادي أيضا؛ أي إصلاح الطبيعة المادية. •••
هذا العرض الموجز يكفي كل الكفاية لإثبات أن للإنسان نفس الواجب بالنسبة إلى طبيعته الخاصة وبالنسبة إلى طبيعة كل الأشياء الأخرى؛ ألا وهو أن يصلحها، لا أن يتبعها. ومع ذلك فإن بعض الناس، الذين لا يحاولون أن ينكروا وجوب إخضاع الغريزة للعقل، يذعنون للطبيعة إلى حد أنهم يقولون إن من الواجب أن يترك لكل ميل طبيعي مجال عمل ما، ومنفذا لإشباعه، فهم يقولون إن كل الرغبات الطبيعية لا بد قد غرزت في النفس لغرض ما، ويمضون في هذه الحجة إلى حد أنهم كثيرا ما يقولون إن كل رغبة، يفترض أن الشعور بها أمر طبيعي، لا بد أن يكون لها في نظام الكون مجال مقابل لإشباعها، وذلك بقدر ما يعتقد الكثيرون (مثلا) أن الرغبة في إطالة الحياة إلى أجل غير محدد هي ذاتها دليل كاف على حقيقة الحياة الأخرى.
وفي رأيي إن كل هذه المحاولات الرامية إلى كشف مقاصد العناية الإلهية بالتفصيل من أجل إعانة هذه العناية على تحقيق هذه المقاصد بعد الاهتداء إليها، هي محاولات ممتنعة من أساسها؛ فأولئك الذين يستنتجون من دلائل معينة أن العناية الإلهية تقصد هذا الأمر أو ذاك، إما أن يعتقدوا أن في استطاعة الخالق فعل ما يريد، أو أن هذا ليس في استطاعته. فإذا أخذنا بالفرض الأول، وقلنا إن العناية الإلهية قادرة على كل شيء، لكانت العناية الإلهية تقصد كل ما هو حادث، وكون الشيء حادثا يثبت أن العناية الإلهية قد قصدته. فإن كان الأمر كذلك، فإن كل ما يستطيع الإنسان عمله مقدر من العناية الإلهية من قبل، وما هو إلا تحقيق لمقاصدها. أما إذا لم تكن العناية الإلهية تقصد كل ما يحدث، وإنما تقصد الخير فقط، وهو الرأي الأقرب إلى نفوس المتدينين، فإن في وسع الإنسان عندئذ أن يساعد مقاصد العناية الإلهية بقدرته وأفعاله الإرادية، ولكنه لا يستطيع أن يعرف هذه المقاصد إلا بالبحث فيما يؤدي إلى تحقيق الخير العميم، إلا فيما يميل الإنسان إليه بطبيعته؛ إذ إنه لما كان من المحتم أن تتصف القدرة الإلهية، في هذا المعنى، بالقصور، نتيجة لما يعترضها من عقبات غامضة وإن تكن كأداء، فمن ذا الذي يعرف أنه كان من الممكن خلق الإنسان دون رغبات لن تشبع أبدا، بل ولا ينبغي أن تشبع على الإطلاق؟ إن الميول التي وهبت للإنسان، وكذلك أية قوى أخرى مما يشاهده في الطبيعة، قد لا تكون تعبيرا عن الإرادة الإلهية، وإنما قد تكون هي الأغلال التي تعوق الفعل الحر لهذه الإرادة. فإذا ما استرشدنا بها في توجيه سلوكنا، فقد نقع في فخ نصبه لنا العدو. والواقع أن الافتراض القائل إن كل ما يتسنى للخير اللامتناهي، أن يرغبه، يحدث بالفعل في هذا الكون، أو أن علينا على الأقل ألا نقول أو نفترض أبدا أنه لا يحدث، مثل هذا الافتراض لا يليق إلا بمن يؤدي بهم الخوف الذليل إلى التوسل بالأكاذيب إلى كائن يدعون أنه لا يخدع، وأن نقمته تحل على كل زور وبهتان.
أما الافتراض الخاص القائل إن الميول الطبيعية، وكل النزعات التي تبلغ من الشمول والتلقائية حدا يتيح إدراجها في باب الغرائز، لا بد أن توجد لغايات طيبة، وأن كل ما ينبغي أن نفعله إزاءها هو أن ننظمها، لا أن نقمعها. أما هذا الافتراض فإنه يصدق بالطبع على معظمها؛ إذ إنه ما كان يتسنى للنوع البشري أن يستمر في الوجود ما لم تكن معظم ميوله متجهة إلى أمور لازمة أو مفيدة لبقائه. ولكن ينبغي - ما لم تحدد الغرائز بعدد قليل جدا - أن نعترف بأن لدينا أيضا غرائز فاسدة يجب أن تستهدف التربية، لا تنظيمها، وإنما استئصالها، أو على الأصح إخمادها بعدم الاستعمال (وهو أمر يمكن تحقيقه حتى بالنسبة إلى الغرائز).
ولكن حتى لو صح أن لكل ميل أولي في الطبيعة البشرية جانبه الصالح، وأن من الممكن بالتدريب الصناعي الكافي أن نجعل نفعه يفوق ضرره، فما أقل ما نستخلصه من هذا ، إذا كان من المعترف به على أية حال أنه لولا هذا التدريب لأدت كل هذه الميول، حتى الضرورية منها لبقائنا، إلى ملء العالم بؤسا، وإحالة حياة الإنسان إلى نسخة مكبرة لتلك الصورة القبيحة من العنف والإرهاب الذي يتمثل في بقية عالم الحيوان، إلا ما استأنسه وهذبه منه الإنسان. ولو شاء أولئك الذين تخيلوا في أنفسهم القدرة على استشفاف مقاصد الخالق في خلقه أن يكونوا منطقيين مع أنفسهم، لرأوا في ذلك دليلا يثبت صحة النتيجة التي يتهربون منها. فلو كان ثمة أي مظهر لمقصد خاص في الخلق، لكان من أوضح الأمور المقصودة أن يقضي جزء كبير من الحيوانات حياته في تعذيب والتهام غيره من الحيوانات. وإذا لم نكن مضطرين إلى الاعتقاد بأن خلق الحيوان من عمل الشيطان، فذلك لأنه لا يتعين علينا افتراض أن هذا الخلق من عمل كائن لا متناهي القدرة. أما لو قلنا إن قاعدة السلوك المطبقة في هذه الحالة هي محاكاة الإرادة الإلهية كما تتمثل في الطبيعة، فإن أشنع فظائع الأشرار من الناس تجد لها عندئذ كل مبرر في المقصد المزعوم للعناية الإلهية، القاضي بأن يلتهم القوي الضعيف في كل أرجاء الطبيعة الحية. •••
إن الاتفاق مع الطبيعة لا يرتبط قط بالخير والشر. ومن المحال أن يتسنى إدخال الفكرة على نحو ملائم في الأبحاث الأخلاقية، إلا في مسألة درجات الإثم
degrees of culpability ، وذلك على نحو جزئي عارض ... فكون الشيء غير طبيعي، بأي معنى يمكن أن تفهم به هذه الكلمة، ليس على الإطلاق سببا يجعله مذموما؛ إذ إن أشد الأفعال إجراما ليست، بالنسبة إلى كائن كالإنسان، أبعد عن الطبيعة من معظم الفضائل. •••
ومن المفيد هنا أن نوجز في كلمات قليلة أهم نتائج هذا البحث:
صفحة غير معروفة