أما المرحلة الثالثة أو «الوضعية» فتأتي أخيرا عندما تترك كل هذه «المشاكل» جانبا بسبب عقمها ، ويظل العلم الوضعي هو وحده الذي يعترف به مصدرا للمعرفة البشرية. في هذه المرحلة لا يتصور «التفسير» إلا من خلال فروض أو قوانين تجريبية تصف العلاقات الثابتة القائمة بين فئات من الظواهر الملاحظة، وهنا لا يعترف «بارتباط على» غير التضايف القابل للتحقيق بين فئات من الظواهر، ويقتصر دور العقل على تتبع العلاقات المنطقية القائمة بين الفروض العلمية ذاتها.
والواقع أن وصف كونت لهذه المرحلة هو في حقيقة الأمر عرض لنظريته الخاصة في المعرفة، وهي نظرية ليست، رغم ذلك، «تجريبية» إلا بأعم معاني هذا اللفظ. فكل تفكير علمي يتعين عليه، في رأيه، أن يقبل اختبارات الملاحظة بوصفها اختبارات حاسمة في تحدد صحة أي فرض. غير أن العلم أكثر من مجرد إقرارات قائمة على الملاحظة، وإن علما كالفيزياء ليتسم، لا بحشد عدد كبير من الوقائع الجزئية، وإنما بصياغة فروض ونظريات عامة تربط هذه الوقائع بغيرها من الوقائع على نحو منظم. والعلم الصحيح لا يظهر إلا عندما يكشف التضايف بين الوقائع، وأهم من ذلك، عندما ينظر إلى الظواهر الفردية على أنها أفراد في فئات شاملة لظواهر مماثلة ترتبط في علاقات شبه قانونية متعلقة بتلازمها في الوجود أو تعاقبها مع أفراد الفئات الأخرى المماثلة. وعندما تكون العلاقات التي تصفها نظرية علمية معينة علاقات تلازم في الوجود، يطلق كونت على هذه النظرية اسم القانون «السكوني
static »، وعندما تكون علاقات تعاقب أو استمرار، يسمي القانون ب «القانون الحركي
dynamic ». ويرى كونت أن هذين النوعين من القوانين أساسيان للعلم، وليس لنا أن نؤثر أحدهما على الآخر على نحو نهائي. ولنضف إلى ذلك، في هذا الصدد، أن من الممكن تجنب قدر كبير من الجدل العقيم حول إمكان أو طبيعة ما يسمى بقوانين التطور التاريخي إذا ما استقر هذا التمييز البسيط دائما في الأذهان بوضوح. ولقد أظهر كونت في هذه المسألة، كما أظهر في مسائل أخرى متعددة، صفاء ذهنيا كان سابقا لزمانه إلى حد بعيد.
ويقبل كونت، بمعنى ما ، المثل الأعلى لوحدة العلم. ولكن يبدو أن فكرة وحدة العلم لم يكن لها في ذهنه المعنى الذي كان لها في أذهان بعض الفلاسفة الآخرين من ذوي العقليات العلمية. ويظهر موقف كونت بوضوح في آرائه الطريفة حول تصنيف العلوم، وهي بهذه المناسبة، مشكلة أتاحت لفلاسفة العلم في القرن التاسع عشر ممارسة إحدى رياضاتهم المنزلية (الداخلية) المحببة إلى نفوسهم. فكونت أولا يرفض رد العلوم بعضها إلى بعض، وهو يعارض أي تصنف يسعى إلى رد علم الاجتماع إلى علم الأحياء، أو علم الأحياء إلى الفيزياء، وهو يرى أن الفارق في نطاق قوانين العلوم أو عموميتها ليس إلا سببا جزئيا للاختلاف بين العلوم. وإنما يرجع هذا الاختلاف أيضا إلى أن التجربة تكشف عن أنماط متميزة شديدة التباين من الظواهر التي يحتاج تفسيرها، لهذا السبب، إلى مجموعة متباينة من التصورات المتميزة، وإلى كثرة من النظريات التي لا يمكن رد بعضها إلى بعض. وإذن فالوحدة الوحيدة للعلم، التي تدعو إليها فلسفة كونت، هي وحدة المنهج؛ أي اشتراك كل الباحثين العلميين في التزام المنطق واختبارات الملاحظة التجريبية. ولا يعترف كونت، ثانيا، بأن الفلسفة ذاتها علم أساسي هام، أعم من الفيزياء. تعد فروض العلوم الأقل عمومية بالنسبة إليه نتائج منطقية أو تطبيقات جزئية. ومن السمات ذات الدلالة الهامة في وضعية كونت أنه يرفض أي نوع من المادية، لا لأن المادية «ميتافيزيقية» فحسب، بل أيضا لأنها تشوه الفوارق الحيوية القابلة للملاحظة والقائمة بين أنواع الظواهر التي تعالجها العلوم الفيزيائية والبيولوجية والاجتماعية.
ومع ذلك فليس معنى هذا أن كونت كان على استعداد لتأييد ما أسماه الفلاسفة الألمان بالعلم الروحي
Geisteswissenschaft ، ولا سيما إذا كان هذا اللفظ يدل على مبحث يعيد صراحة إدخال المقولات الروحية في مجال العلم، أو يهيب بمعطيات «خاصة» مزعومة للتجربة، لا يتوصل إليها، من حيث المبدأ، إلا بالاستبطان، أو يستخدم أخيرا «منطقا» ديالكتيكيا خاصا يختلف عن المنطق المستخدم في العلوم الفيزيائية. وعلى العكس من ذلك يرفض كونت أن ينظر إلى الذهن البشري على أنه مجال وحيد للبحث لا تصل إليه طرق التحليل والملاحظة العامة المشتركة بين الذوات. وهو يرى أن هنالك أساسا علمين أساسيين للسلوك البشري؛ علم وظائف الأعضاء (الفسيولوجيا)، وعلم الاجتماع. وفي رأي كونت أن أي علم ثالث يزعم أنه يعالج ظواهر (نفسية) خاصة إنما هو من قبيل الأسطورة المحض. وينبغي أن يضاف إلى ذلك هنا أن كونت نفسه قد نحت اللفظ، اللقيط: «
sociology »،
1 (علم الاجتماع) للدلالة على علم لم يكن موجودا بعد للمجتمع البشري، وهو العلم الذي اعتقد أن قوانينه هي وحدها الكفيلة بتفسير السلوك الاقتصادي والسياسي والأخلاقي للبشر. ويعترض كونت بشدة على أية نظرة تاريخية خالصة إلى دراسة العمليات التاريخية، وهو في هذا يتحالف مع معاصره الإنجليزي الأصغر سنا، جون ستيوارت مل، ضد مؤيدي ما يسمى بالمنهج التاريخي، الذين يزعمون أن دراسة التاريخ وحدها كفيلة بإتاحة المعرفة المؤدية إلى السلوك في الحياة. فالتاريخ في رأي كونت يمدنا بمجموعة من الملاحظات الجزئية التي لا تستطيع، على أحسن الفروض، إلا تقديم المعطيات الممهدة لتعميم النظريات الاجتماعية واختبارها، ولكنه لا يأتي بالنظريات ذاتها. ومن المحال في نظره توافر معرفة بحركية التاريخ ما لم تقم هذه المعرفة على علم للمجتمع.
وهناك صفة أخرى تتصف بها فلسفة كونت وينبغي علينا إيضاحها؛ فقد أخذ كونت في سنواته الأخيرة يزداد إيمانا بأن فلسفته تنطوي على أساس «لعقيدة جديدة للبشرية»، كانت هي وحدها الملائمة في نظره لعقل البشر في عصر علمي. فالأديان التقليدية تقتضي قبول معتقدات لاهوتية غير علمية، وتحول جهودنا عن مشاكل الرفاه الفردي والاجتماعي «في هذا العالم». وفي هذا كان كونت معارضا لها، وقد حاول أن يستعيض عنها بالمثل الأعلى الديني الجديد لبشرية تزداد استنارة بالتدريج، وتتفاني بغيرية في سبيل مبادئ الرعاية والحب. ولكن مما يؤسف له أن كونت لم يقنع بالدعوة إلى عقيدته الجديدة، وإنما اتجه أيضا إلى تحديد طقوس مفصلة لها، مما كان موضوعا لسخرية ناقديه. وفضلا عن ذلك فقد ازداد كونت في سنواته الأخيرة إيمانا بأنه النبي الحقيقي لدينه الجديد، وبأن عشيقته الشابة هي القديسة الحامية لهذا الدين، كما أنها رمزه. ولم يكن في هذا، بطبيعة الحال، ما يؤدي إلى إعلاء قيمته من حيث هو مفكر.
صفحة غير معروفة