ومن الواضح، رغم كل عداء شوبنهور لفشته، أن في هذا الجزء من فلسفته تشابها قويا بينهما. ولم يكن الفارق الرئيسي بينهما في هذا الصدد فارقا نظريا بقدر ما كان اختلافا في المزاج؛ ففشته يمجد الإرادة في آخر الأمر، أما شوبنهور، فهو وإن يكن يتجه إلى إضفاء صبغة شخصية عليها، فإنه يعدها قوة شريرة تحبط من كل وجه حياة الإنسان الروحية.
ومع ذلك فإن شوبنهور ليس مجرد ميتافيزيقي شيطاني يشوه «عالم الواقع» الذي وصفه معاصروه بأنه «معقول» و«حقيقي» في آن واحد. بل إن فيه أيضا شيئا من النزعة الطبيعية، بحيث إن نظرته إلى الحياة الواعية للإنسان على أنها ناتج عرضي للإرادة فيها قطعا استباق لفرويد. ولقد كان شوبنهور يستخدم على الدوام معلومات بيولوجية وتاريخية تجريبية لضرب أمثلة لرأيه القائل إن إرادة الحياة هي القانون الأساسي للحياة ذاتها. وإذا كانت فكرة الإرادة عنده قد حملت ما لا تحتمل، واكتسبت صفات شبه خرافية لا شأن للعلم التجريبي بها، فإن الكثيرين من شراح شوبنهور قد نوهوا بحساسيته العميقة في ميدان علم النفس.
ويمكن القول، بمعنى ما، إن أوصاف شوبنهور التجريبية غير المتكلفة للإرادة، تبعث قدرا كبيرا من الحرج في نفس أي فيلسوف يتخذ نقطة بدايته من ثورة كانت الكبرنيكية في الفلسفة. إذ إنه يربط فهمه للإرادة بأوصافه للسلوك الملحوظ للكائنات العضوية ربطا يبلغ من الوثوق حدا يجعل مشكلة الاحتفاظ بالتمييز الأساسي بين الإرادة من حيث هي شيء في ذاته يعلو على التجربة وبين الجسم البشري بوصفه فكرة، أو ظاهرة صبغت بصبغة موضوعية، واحدة من مشاكله الأساسية. ورغم تحمس شوبنهور الهائل لكانت، فإنه لم يتعلم تماما درس الفلسفية النقدية؛ إذ يبدو، من وصفه للإرادة أو مظاهرها مثل هذا التفصيل، أنه يحولها إلى مجرد «فكرة» أخرى ليس لها، بالنسبة إلى مقدماته هو، أن تدعي لنفسها حقيقة تزيد على حقيقة أية فكرة أخرى مستمدة من التجربة. وبالاختصار، فليس في وسع شوبنهور أن يجمع بين الأمرين معا؛ فهو لا يستطيع أن يعد السلوك الملحوظ للكائنات العضوية البشرية مظهرا لحقيقة الإرادة الكامنة من ورائه بوصفها شيئا في ذاته، وأن يؤكد، في الوقت ذاته، أن مجال الملاحظة التجريبية منفصل تماما عن الأشياء كما هي في حقيقتها.
أما حل هذه المشكلة، إن كان هذا هو الاسم الذي ينبغي إطلاقه عليها، فلا يكون في أي جدل نظري أو تحليل منطقي، وإنما نهتدي إليه في المجال الأيديولوجي، وفي مواقف شوبنهور الرئيسية من السلوك في الحياة، واستخدامه الساخر للكلمات الرنانة من أمثال «الواقع
reality ». وفي حين أن فشته، ومن بعده نيتشه، قد أكدا الواقعية المطلقة للإرادة، وجعلا من هذه الصفة علامة على قيمتها الإيجابية الأساسية، فإن شوبنهور يستخدم الكلمات ذاتها للتعبير عن احتقاره العميق ويبدو أنه يقول: هذا حقيقي «في الواقع»، وكأنه ليس ثمة طريقة أشد فعالية من هذه للتعبير عن اشمئزازه. فتلك هي طريقته الحاقدة في التعبير عن احتقاره لكل ذلك النشاط البرجوازي اللاهي غير المكترث الذي تنطوي عليها كل هذه الحركة المثالية بأسرها. ويبدو أنه يتساءل: هل ينظر معاصروه الآن إلى «الإرادة» على أنها مرادفة «للواقع
reality »؟ إذن فالواقع شيء ينبغي الانسحاب منه بأي ثمن، حتى إلى «عالم» أوهام إذا ما دعا الأمر، والواقع أن شوبنهور يمضي في تفنيده للحياة الإيجابية «الأخلاقية» التي يمجدها فشته، وكذلك هيجل إلى حد ما، إلى حد أنه يرفض أن يعزو إلى الإرادة، تلك «الحقيقة القصوى»، حتى تلك التقوى الطبيعية التي يتنازل الطيبون عنها عادة للشيطان. فالإرادة في ذاتها شر كلها، وهو يدير لها ظهره تماما، و«يستغلها»، بطريقته الساخرة، في تشويهها والقضاء عليها.
وهناك من نقاد شوبنهور من يدعون أنهم يجدون في عزوفه المتشائم عن العالم شيئا من عدم الإخلاص. والأمر الذي يفوتهم هو السخرية الكامنة في طريقة ممارسة شوبنهور للتفكير الميتافيزيقي؛ فشوبنهور متشائم بالفعل من وجهة نظر المتعلقين بالعالم، الذين يوحدون بين «الواقع
reality » وبين مطامعهم الخاصة الجامحة. فليخلعوا، إذا شاءوا، صفة «المعقولية» على الإرادة، وليسموا مظاهرها «الموضوعية» في النظم التاريخية للدولة والكنيسة مظاهر تكشف بها «الروح» عن ذاتها، فما ذاك في الحق إلا تعبير عن طريقتهم الخاصة في الكشف عن أنفسهم؛ فليس في مثل هذا «الواقع» في نظر شوبنهور سلام ولا سعادة بالنسبة إلى الإنسان. ولنتأمل الواقع (
reality ) «الروحي» الذي يصفه هيجل ذاته، فماذا يكون الديالكتيك التاريخي إن لم يكن سجلا للصراع اللامتناهي الذي يكتب فيه على كل «لحظة» أن تجد آفتها في التعارض المحتوم الذي تولده داخل ذاتها، وهكذا يقول شوبنهور إنه إذا كان هذا هو «الواقع»، فمرحبا بهيجل فيه، وإذا كان التشاؤم هو بديله عنه، فلم لا تقبل التشاؤم؟
ولكن ماذا يكون الأمر إذا أمكن تحويل الإرادة، وهي مصدر كل شقاء، ضد ذاتها؟ إذا كانت الإرادة هي الشر، فشفاؤنا منها يكون في إخمادها. وهنا يبدو أن الحل الواضح هو الانتحار. غير أن شوبنهور يرفض الانتحار بوصفة آخر أفعال الإرادة وأكثرها يأسا فحسب؛ فالانتحار يقضي على الجسم من حيث هو ظاهرة، ولكنه لا يقضي على الإرادة ذاتها. والحل الوحيد الآخر، في رأيه، هو تحويل الإرادة ضد ذاتها، وإخماد رغباتنا الخاصة عن طريق سلسلة من أفعال العزوف. وهكذا لا تكون النتيجة عنده هي الموت، وإنما التأمل.
صفحة غير معروفة