ليشهدان بتلك القوة التي اكتسبتها النظرة العلمية بين أوساط المثقفين عامة في القرن التاسع عشر. بل إن «ماتيو أرنولد» نفسه، الذي حارب في معركة المؤخرة اليائسة دفاعا عن التراثين الهيليني والعبري، قد تأثر إلى حد بعيد بالنزعة الطبيعية والعلمية لعصره. ويمكن القول إن كتابه «الأدب والعقيدة الثابتة
Literature and Dogma » هو بمعنى معين، استباق تنبؤي لمذاهب اللاهوت التحررية أو الوضعية المتأخرة التي تحاول الاحتفاظ بسلطة الكتاب المقدس وبقيمته الأخلاقية عن طريق إبعاده تماما من مجال الكتابة الواقعي وإدراجه ضمن نطاق «الأدب» الذي لا تكون مهمته هي المعرفة بقدر ما تكون «نقد الحياة».
غير أن ثمة دلائل أخرى على أن الفلاسفة المعاصرين قد بدءوا يعترفون بالأواصر التي تجمع بينهم وبين كبار فلاسفة القرن التاسع عشر. ومن أسباب ذلك أننا أصبحنا ندرك أن المشكلات الحضارية الكبرى التي شغلت أذهان فلاسفة القرن التاسع عشر ما زالت قائمة بيننا؛ فبظهور أيديولوجيات لا عقلية كالفاشية والنازية، وبانتشار الشيوعية، وإحياء الأديان فوق الطبيعية في الغرب في الآونة الأخيرة، اضطر فلاسفة القرن العشرين إلى إعادة النظر في إيمانهم بالعقل، والتزامهم الأعمى بكتب العلم المقدسة، أو ما يسمونه هم «موقف الإنسان العادي». وهكذا بدأ الفلاسفة، بعد فترة من التحليل المفصل للأسس المنطقية للعلم، يدركون أن النقد الأهم للعقل، الذي بدأه كانت وواصله المثاليون، ما زال مهمة فلسفية لا غناء عنها، وأنه بدون ذلك النقد قد يكسب دعاة الجهالة والغيبيات المعركة لعدم وجود خصم يقف في وجههم.
لقد كان في العصر الزاهي لفلسفة القرن التاسع عشر عمق وحرية روحية يخلق بنا أن نحاول استعادتهما. وقد يحتقر الفلاسفة العلميون الأيديولوجية، غير أن هذا لن يكون إلا على حسابهم. وقد تضيع مكاسبهم العقلية التي أحرزوها بجهد جهيد في موجة من اللاعقلية الفلسفية واللاهوتية إذا ما ظلوا يرفضون الاقتداء بأسلافهم العظام، مثل كونت ومل وماخ. ومن المحال أن يأتي وقت تكون فيه قضية التنوير قد ربحت نهائيا. وعلى أصدقاء العلم أنفسهم إذا ما شاءوا أن يبقوا روح التنوير حية في عصر معارضة أيديولوجية عميقة لها، أن يدخلوا هم أنفسهم في حلبة الأيديولوجية. ومعنى ذلك أن يمارس المرء الميتافيزيقا، طوعا أو كرها، بمعنى واحد على الأقل من معاني هذا اللفظ الغامض.
ومع ذلك، فعلينا هنا أن نعترف بفضل للمثاليين في مسألة معينة؛ فالميتافيزيقا عندهم لا تعني علما أسمى من العلوم، وإنما وضع صيغة للالتزامات البشرية الأساسية والدفاع عنها. وإن تأكيدهم للترابط بوصفه معيار الصحة الميتافيزيقية ليوحي هو ذاته بأن امتلاء الحياة ، لا مطابقة الوقائع، هو الهدف النهائي للبحث الميتافيزيقي. ولقد أدى حديثهم عن «عالم الواقع
reality » إلى إثارة الحيرة في أذهان الكثير من الشراح، ولكن كون قضاياهم الميتافيزيقية تهتم دائما «بالواقع الفكري أو المثالي» لا «بالوجود» في الواقع، يجعل من الواضح تماما أن المهمة الأساسية للميتافيزيقا عندهم ليست وصف طبيعة الأشياء، وإنما صياغة نظرة مترابطة إلى العالم، كافية لإرشاد السلوك في الحياة.
والواقع، كما أدرك هيجل، أن الإنسان يستخدم أنواعا كثيرة مختلفة من الصور الرمزية، بحيث ينبغي الحكم على صحة أية قضية حسب المعايير المتعلقة بالغايات التي تستهدفها هذه القضية. مثال ذلك أن القول بأن الأحكام الأخلاقية لا معنى لها، لا لشيء إلا لأن لفظي «الخير» و«الشر» لا يدلان على أية صفات للأشياء يمكن ملاحظتها، معناه الافتراض مقدما بأن نسبة مثل هذه الصفات إلى الظواهر هو الهدف الوحيد للكلام، ولكن لم نقول بفرض كهذا؟ إن المسألة هي أن أية صورة للكلام ذات مرمى، وتتجه إلى تحقيق هدف إنساني جدي، لا بد أن يكون لها معنى، وذلك في واحد من المفاهيم الثابتة المستقرة لكلمة «المعنى».
وإن البرجماتيين أنفسهم ليعترفون بذلك؛ فما تسميه فلسفة القرن التاسع عشر بالميتافيزيقا قد يكون ذا دلالة، بل قد يكون ضروريا للسلوك في الحياة، حلو لم يكن له معنى «علمي». وهنا يحق لنا أن نهيب بالمبدأ البرجماتي القائل إن معنى أي قول لا يكون في «الأفكار الواضحة المتميزة»، وإنما في عادات الفعل المرتبطة به؛ فالأنواع المختلفة للكلام مخصصة لتحقيق أنماط مختلفة من السلوك، ليست إقامة العلم إلا نوعا رئيسيا واحدا، وواحدا فقط، منها. ولما كان الأمر كذلك، فليس للمحلل المفكر أن يعلن خلو الميتافيزيقا من المعنى إلا بعد أن يبحث أولا في دورها الاجتماعي المميز لها. كما لا يجوز له أن يحكم على صحتها مقدما بمعايير لا تنطبق إلا على نوع آخر من أنواع النشاط البشري. وهذا، إن لم أكن مخطئا، هو عين ما تنطوي عليه نظرية «العقلين» عند كانت. كما أنه جزء مما ينطوي عليه ضمنا مذهب المعرفة عند فشته.
وإن لعلى ثقة من أن التحول الترنسندنتالي الذي قام به كانت وأتباعه عند بداية القرن التاسع عشر قد حقق، إلى جانب بعض المزايا الأخرى غير المؤكدة، فوائد ذات أهمية عظمى للفلسفة. ومع ذلك فإنا لم ندرك هذه الفوائد في منظورها الحقيقي إلا في الوقت الحالي فقط؛ فهو إذ أكد ضرورة القيام بنقد أساسي في ميادين المعرفة والأخلاق والميتافيزيقا والدين، قد أدخل في المجرى العام للتفكير الفلسفي قدرا من الوعي الذاتي النقدي بالحقوق المشروعة للفلسفة ومناهجها وأهدافها، كانت له أنفع النتائج. وكثيرا ما نجد من الفلاسفة المعاصرين من يعربون عن عدم رضائهم عن النتائج النهائية لتفكير كانت. بل إن بعضهم تطلع في حنين إلى تلك الأيام الخوالي التي كانت فيها الميتافيزيقا لا تزال تعد تاج العلم، وتضع بجلالة القوانين الضرورية لكل ما هو موجود. غير أن هذه الأيام قد مضت إلى غير رجعة. وليس معنى ذلك أن مهمة الميتافيزيقا بأسرها غير هامة، أو ينبغي التخلي عنها، وإنما معناه أن من الواجب تصورها وممارستها بروح مخالفة؛ فبعد كانت أصبحت الميتافيزيقا تملك حرية القيام بعملها المتكامل في إيضاح وتنظيم وحماية المواقف والالتزامات البشرية الأساسية الكامنة في أي أسلوب للحياة أو أية حضارة. وفي ضوء هذا الهدف ينبغي أن يظل معيار المعقولية لديها، كما يرى المثاليون، هو معيار الترابط. صحيح أن أية ميتافيزيقا سليمة ينبغي أن تتمشى مع كشوف العلم، بل أن ترحب بها، غير أن هناك التزامات إنسانية أساسية ينبغي عليها أن تعمل لها حسابا، وأنماطا أخرى للفعل ينبغي أن تأخذها بعين الاعتبار عند محاولتها تكوين صورة سليمة عن «الواقع».
ولكلمة «صورة» هنا أهمية حاسمة؛ فهدف أية صورة ليس وصف الأشياء في ذاتها، وإنما عرض تكوين يؤدي في مجموعه إلى إرضاء الناظر إليه على نحو دائم. فالصورة ليست «تقريرية
صفحة غير معروفة