والعلم ينقل بالتلقين؛ حتى ينتفع الشخص من خبرة الآخر ويعفى من عناء جمعها لنفسه؛ ولذا تختزن تجارب أجيال بأسرها في المكتبات لإعفاء الأجيال القادمة من هذا العناء.
واللغة، التي هي أداة هذا النقل، هي ذاتها جهد اقتصادي؛ إذ تحلل التجارب أو تقسم إلى تجارب أبسط وأقرب إلى معرفتنا، ثم يرمز إليها، مع بعض التضحية بالدقة. وما زالت رموز التخاطب محصورة في استخدامها في حدود قومية، وستظل قطعا كذلك مدة طويلة. غير أن اللغة المكتوبة تتحول بالتدريج إلى اتخاذ طابع مثالي شامل. (2)
وعندما نستعيد الوقائع في الفكر، لا نستعيدها كاملة أبدا، بل نستعيد منها ذلك الجزء الذي يهمنا، مدفوعين في ذلك بالمنفعة العملية، سواء أكان بطريق مباشر أم غير مباشر. وهكذا تكون استعاداتنا تجريدات على الدوام. وهنا أيضا نجد نزوعا إلى الاقتصاد.
إن الطبيعة تتألف من إحساسات هي عناصرها. ومع ذلك فقد التقط الإنسان البدائي أول الأمر مركبات معينة لهذه العناصر؛ أعني تلك التي تتسم بثبات نسبي وبأهمية أعظم بالنسبة إليه؛ فأول الكلمات وأقدمها هي أسماء «أشياء». وحتى في هذه المرحلة نجد عملية تجريدية؛ أي تجريدا لأشياء مما يحيط بها، ومن التغيرات الصغيرة المستمرة التي تمر بها هذه الإحساسات المركبة، والتي لا تلاحظ لأنها ليست بذات أهمية عملية. فلا وجود لشيء لا يتغير، وإنما الشيء تجريد، والاسم رمز، لمركب من العناصر تجرد منه التغيرات. والسبب الذي يجعلنا نطلق كلمة واحدة على مركب كامل هو أننا نريد أن نوحي بكل الإحساسات المكونة دفعة واحدة. وعندما نلاحظ فيما بعد قابلية الشيء للتغير، لا نستطيع في الوقت ذاته أن نتمسك بفكرة دوام الشيء ما لم نلجأ إلى تصور شيء في ذاته، أو ما يشبه ذلك من التصورات الممتنعة؛ فالإحساسات ليست علامات على الأشياء، وإنما الشيء هو في الواقع رمز فكري لإحساس مركب ذي ثبات نسبي. وبعبارة أصح، فالعالم ليس مؤلفا من «أشياء» هي عناصره، وإنما من ألوان وأصوات وضغوط وأمكنة وأزمنة، وبالاختصار فهو مؤلف مما نسميه عادة بالإحساسات الفردية.
وما العملية بأسرها إلا مسألة اقتصاد؛ فنحن نبدأ، في استعادة الوقائع، بالمركبات الأكثر دواما والأقرب إلى معرفتنا المألوفة، ونكمل هذه فيما بعد بالمركبات غير المألوفة عن طريق التصويبات. وهكذا نتحدث عن أسطوانة مخرمة، وعن مكعب ذي أحرف مشطوفة، وهي تعبيرات تنطوي على تناقضات، ما لم نقبل الرأي الوارد ها هنا. وجميع الأحكام إنما هي توسيع وتصويب لأفكار سلم بها من قبل. (3)
عندما نتحدث عن علة ومعلول، نتعمد إبراز تلك العناصر التي ينبغي أن ننتبه إليها عند استعادة واقعة من الناحية التي تهمنا فيها؛ فليس في الطبيعة علة ولا معلول، وليس فيها إلا وجود فردي؛ فالطبيعة تكون فحسب. وليس لتردد وقوع الحالات المماثلة التي يرتبط فيها أ مع ب على الدوام؛ أي ينتج فيها المماثل في الظروف المماثلة، وهي ماهية الارتباط بين العلة والمعلول - ليس لهذا وجود إلا في التجريد الذي نقوم به بقصد استعادة الوقائع ذهنيا. فإذا ما أصبحت إحدى الوقائع مألوفة، فلن نحتاج إلى إبراز سماتها الرابطة، ولن يعود انتباهنا موجها إلى ما هو جديد ومستغرب، ولا نعود نتحدث عن العلة والمعلول.
ويبدو أن التفسير الطبيعي المعقول هو الآتي؛ ففكرة العلة والمعلول قد ظهرت أصلا من محاولة لاستعادة الوقائع في الفكر؛ ففي البداية يعد الارتباط بين أ، ب، وبين ج، د، وبين س، ص، إلخ، أمرا مألوفا. ولكن بعد اكتساب قدر أكبر من المعرفة، وملاحظة ارتباط بين ك ول، فكثيرا ما يحدث أننا نتعرف على ك على أنها مؤلفة من أ، وج، وس، وعلى ل على أنها مركبة من ب، ود، وص، وهي ظواهر كان ارتباطها من قبل واقعة مألوفة، وبالتالي تكون له لدينا سلطة أعلى. وهذا يفسر السبب الذي من أجله ينظر الخبير إلى الحادث الجديد نظرة تختلف عن نظرة الشخص الساذج إليه؛ فالتجربة الجديدة تستنير بمجموع التجارب القديمة. وهكذا توجد في الذهن بالفعل «فكرة» تدرج تحتها التجارب الجديدة، غير أن هذه الفكرة ذاتها قد تكونت بالتجربة. وربما كان أصل فكرة ضرورة الارتباط العلمي هو حركاتنا الإرادية في العالم والتغيرات التي تحدثها هذه الحركات بطريق غير مباشر، كما افترض هيوم، وعارضه فيه شوبنهور.
إن قدرا كبيرا من سلطة فكرتي العلة والمعلول إنما يرجع إلى أنهما تكونتا غريزيا وبطريقة لا إرادية، وإلى أننا لا نشعر على نحو ملموس بأننا قد ساهمنا بشيء في تكوينهما. وهكذا نستطيع أن نقول فعلا إن حاسة العلية عندنا لم يكتسبها الفرد، وإنما صقلت بالتدريج في تطور الجنس. ومن ثم فالعلة والمعلول أمور فكرية، لها وظيفة اقتصادية. ولا يمكن الكلام عن سبب ظهورهما؛ إذ إننا لا نعرف السؤال عن «السبب» إلا بالتجريد من اطرادات.
الفصل الثالث عشر
حاشية ختامية غير علمية
صفحة غير معروفة