كان الوقت قد تأخر! لا نعرف إن كانت الشمس قد غابت أم لا تزال على وشك المغيب، والحجرة لم يكن يضيئها غير نافذة صغيرة جدا قريبة من السقف كنوافذ الزنازين والسجون، وكدنا لا نرى شيئا لحظة دخولنا، بدت لنا الحجرة كمخزن مملوء بظلام قديم مهمل، آذاننا فقط هي التي استطاعت أن تميز وتسمع وتدرك أن شهقات مكتومة تتردد في الجو المشبع بزفرات مبللة بالدموع.
لحظات قليلة هي التي استغرقتها المفاجأة، بعدها وجدنا أن باستطاعتنا أن نرى، ونرى بسهولة، وكأن عيوننا قد بالغت في التقدير، أو أعماها مجرد الدخول، كانت الحجرة واسعة، أشبه بالصالة الثانية، وأثاثها قليل، «حصيرة» كبيرة تغطي الأرض ، ودولاب عرس قديم طال استعماله، في الركن، وإلى اليمين سرير بأربعة عمدان، فوقه مرتبة ممزقة الكيس، وقطنها أسود ظاهر، وكذلك المخدات والرائحة مقبضة، تخاف معها أن تتنفس فتلهث.
كان عباس الزنفلي يرقد نصف رقدة على الفراش، والزوجة تسنده، وكان يبدو كمن كف لتوه عن البكاء، ومن الصعب أن أحاول وصف الحالة التي كان عليها، فمفروض أن تبدو على المريض آيات الضعف والهزال، وأن تتغير سحنته وتنقلب، ذلك التغير الذي يجعلنا ندرك أن الشخص مريض، من هذه الوجهة كانت تبدو على عباس آيات المرض، لكن لم تكن هذه الآيات أخطر ما به، أخطر ما به كان في عينيه، أو بتحديد أكثر في نظرته، فمفروض أن الجسد حين يضعف أو يمرض ويشحب جلده ولونه تبرق عينا صاحبه وتتوهجان وكان شحوب العينين يبدو على هيئة بريق، والمجانين مثلا لهم نظراتهم، وكأن الشخص حين يجن تجن عيناه أيضا، كما يخرف بتفكيره يخرف بنظراته، فتصبح كأن لا معنى لها، ولا إرادة وراءها، نظرات عباس لم تكن مريضة، أو متوهجة، أو مجنونة، كانت ساكنة سكونا مستمرا مستتبا كسكون الموت، وشاملة أيضا، فيها ذلك الشمول الذي تحسه للمحيط حين تقف على شاطئ له ولا تستطيع لفرط اتساعه وامتداده أن تتصور أن له شاطئا آخر، في الحقيقة كان سكوتها المستمر وشمولها وامتدادها يجعل النظرات كسطح بحر لا يتحرك، وكأنما هو موجود في عالم مفرغ من الهواء، وبلا شروق أو غروب، وبلا بداية أو نهاية أو زمن.
دخلنا وفوجئنا بعبد الله يقول بلا مناسبة وبصوت متهدج: سلام عليكم! موجها تحيته إلى عباس، ولا أعرف إن كان الأخير قد شعر بنا وبدخولنا أو لم يشعر؛ إذ حتى السلام الذي ألقاه عبد الله لم يكلف نفسه مشقة الرد عليه.
ومن لحظة أن دخلنا وبدأت أعتاد المكان وجدت أن اهتمامي لم يعد مركزا على عباس وحالته فقط، أصبح اهتمامي موزعا بينه وبين شوقي، كان شوقي في أثناء سماعه لنور وسؤالها، وبعدما سمع ما سمع وقبل أن يدخل الحجرة، وحين دخل وأصبح يضمه مكان واحد مع عباس باستطاعته أن يراه فيه رأي العين ويتثبت من وجوده، كان قد انتابته حالة لم أره عليها من قبل، حالة ما كدت ألحظها حتى خيل إلي، وكأنما أضاء النور فجأة في عقلي، وكأنما بدأت أعي بشيء كنت أراه، ولفرط تعودي رؤيته لم أعد أراه، تماما مثلما لا تستطيع أن تدرك أن شخصا ما كان تعسا طول الوقت إلا حين تراه فجأة يبتسم، أو أنه كان راضيا إلا حين تراه فجأة يغضب، هكذا انتابت شوقي تلك الحالة، حين بدأت أشياء في نفسه تصطرع وتعبر ملامحه وعضلات وجهه عن صراعها، حين بدأت انفعالاته تتلون وتتشكل، ويخاف، ويدهش، ويرغب، ويستطلع، ويتردد، حين أسقط فجأة بسمته الخالدة، فبدا كما لو كان قد أسقط قناعا كان يحجب به نفسه عني، وحتى عن نفسه، حين لمحت وكأن الحياة قد بدأت تتدفق بسرعة وقوة واندفاع إلى كيانه، وأدركت لحظتها فقط - مذهولا - أني كنت خلال السنين الطويلة التي صاحبته فيها بعد خروجه من السجن كنت أصاحب شوقي آخر دون أن أدري، وأن ظنوني كانت على حق، وتخميناتي عنه كانت صحيحة؛ إذ في تلك اللحظة بدا وكأن شوقي القديم، شوقي الذي كنت أبحث عنه بلا جدوى في شوقي، شوقي الثائر الحي قد دبت فيه الحياة من جديد، وصحا وكأنه كان ميتا محنطا في مكان ما من جسده، في ابتسامته المرسومة ربما تلك الابتسامة التي أدركت لحظتها أيضا أنها كانت ابتسامة ميت على وجه حي، ابتسامة تحس إذا دققت فيها التأمل أنها البقية الباقية من شخص مات وشبع موتا، ابتسامة ذكرتني نظرة عباس الزنفلي بها وعرفت منها سر الإحساس الذي كان ينتابني كلما رأيتها؛ إذ أدركت أني كنت وكأني أتطلع إلى سطح بحر هامد شامل لا تتحرك فيه موجة، ولا تصدر عنه نأمة، وكأنه البحر إذا وجد في عالم مفرغ من الهواء، حالة انتابت شوقي وأحدثت في عقلي دوامات أفكار وتأملات وأحاسيس، ولكني رغم كل ما كان يدور في عقلي وجدت نفسي على وشك أن أحس بفرحة طاغية؛ إذ تصورت أنه قد آن الأوان لينفض شوقي عن نفسه شخصية الكائن المذعور المعقور، وأنه لا بد في طريقه إلى العودة، لا بد أنه عائد، ولا بد أني لن أغادر الحجرة إلا وفي صحبتي شوقي الذي فشلت جهودي لإعادة الروح إليه، ويئست ولم يعد في جعبتي أي أمل.
وبشغف متزايد مضاعف رحت أتابع ما يحدث، والآن أنا أحاول تسجيل ما دار واستعادة الصورة وإبقاءها بطيئة أتفحصها على مهل وكما أريد، الآن باستطاعتي التحكم في الزمن وتتابع الصور، ساعتها لم أكن في وضع أنا فيه المسيطر، كانت الأشياء تحدث في لمحات سريعة بالكاد أستطيع متابعتها أو تبينها، بالكاد أملك القدرة على استرجاع ما سبق اللحظة أو الحركة من تاريخ، فالمهم في مواقف كتلك ليس فقط أن تتابع ما يدور فيها، ولكن أن تتابعه وأنت فاهم مدرك لكل ما سبقه، وأنت حافظ لتاريخ حياة الموقف؛ إذ هو الذي من خلاله تستطيع أن تفرق بين المهم وغير المهم، بين الكلمة الواحدة حين يصبح لها قوة الحدث الهائل وبين الحدث الظاهر الهائل حين لا يستحق الذكر.
بخطوات يعرف صاحبها لماذا يخطوها، لا يبدو اضطراب أو وجل فيها، تقدم شوقي من فراش عباس، وبعيون كأنما انقطع عنها النظر من سنين ثم استعادت القدرة عليه فجأة شمله بنظرة قوية فاحصة لا ذعر فيها، كل ما فيها من اهتزاز مرجعه ربما لوجودي ووجود عبد الله، نظرة لا كره فيها ولا حقد ولا شماتة، كل ما يبهرك فيها هي الإرادة، إرادة أن تنظر ولا تخفى عليها خافية، وبمقام من مقامات صوته لم أسمع شوقي ينطق به قال: أنت عباس؟
ودون أن يرفع الرجل الهيكل رأسه سكب على شوقي كمية من نظراته الميتة الوقع والطعم والإدراك. - عيان بإيه؟
أطلقها شوقي حامية، وكأنما من صدر حولته حرارة ما يدور فيه من انفعالات إلى تنور، وأيضا لم يتحرك الرجل الجالس نصف جلسة، ولا بدا عليه أنه سمع. - عباس محمود الزنفلي؟
خرجت من فم شوقي كالصرخة، كالنداء الهادر، أعقبها بصرخة أخرى : انطق.
صفحة غير معروفة