وأما الجواب عن قولهم: إنه ابتدأ بذكر الشراب وليس ذلك من أعالي الثواب. فهو إنا نقول لهم: إنما ابتدأ بذكر ذلك على معتادهم وقد كان القوم يألفون الشرب ويذكرون الندمان في الشرب ويفتخرون بما كان يبدو منهم في تلك الحال من السماحة والندى والاقتحام على العدى ألا ترى قائلهم كيف قال:
وإذا شربت فإنني مستهلك
مالي وعرضي وافر لم يكلم
وقال الآخر:
وإذا سكرت فإنني
رب الخورنق والسدير/ 61/
فنهوا عن ذلك فانتهوا، فبشرهم الله سبحانه بخير مما نهوا عنه بدلا وأحسن مما كانوا يعملون فيه عملا، ولم يكن الطعام حاله حال الشراب، لاحتياج الغني والفقير والشريف والحقير إلى الطعام وعمومه فيما بين الأنام.
وأما الشراب فإنه لا يتقدم إليه إلا من أشفق عليه وأعد له من أصحاب وعدد وإخوان ومدد.
ولأن ذكر الشراب كان أوفق بحالهم، لأنهم إذا وافوا القيامة، وعاينوا المحمدة والملامة، وقاسوا بلايا الحشور، وذاقوا شدائد النشور، ورفعت الهواء وكشف الغطاء، وأدنيت الشمس من رءوسهم إلى قدر رمح، فاذتهم بحرارتها وكادت تحرقهم بنكاوتها، وغلبهم العطش والغلة، وعلتهم الكابة والذلة، فلم يكن ما يكرمون به أوفق بحالهم من الشراب، [و] على هذا مضت قصة الكتاب.
ألا ترى الأطباء إذا استحضروا الأدواء، كيف يقدمون الحار والبارد من الشراب، ثم يبلغونها الأطعمة الموافقة لذلك الباب، فلذلك ابتدأ الله سبحانه بذكر الشراب، وكان ذلك أفضل أوائل الثواب.
أولا ترى أن الله سبحانه أضاف أمر الشراب إلى نفسه بقوله: وسقاهم ربهم شرابا طهورا فأي شرف أعلى من هذا؟
وأما الجواب عن قولهم: ليس قوله عباد الله من الأوصاف العالية وقد كان المرتضى والزهراء، ثم اسم/ 62/ المؤمن والمتقي أعلى منه لعموم اسم العبد
صفحة ٤٩