قال: «جئت يا مولاي طوعا لأمرك.»
قال: «وددت لو كنت البارحة معي في هذا الصيد.»
قال: «وأنا أشتهي ذلك يا أمير المؤمنين ... لا زلت ظافرا غانما.»
وبعد أن حول الخليفة وجهه نحو القصر رجع كأنه تذكر شيئا وأشار إلى الوقوف فانصرفوا واستبقى ضرغاما، وقال له: «سأذكر لك الآن شيئا يسرك؛ فقد اصطدت أسدا هائلا، ولا أرى أسدا إلا تذكرتك؛ لأنك تسمى ببعض أسمائه.» ثم أشار إلى الحاجب فوقف بين يديه فقال له: «قل لأصحاب الصيد أن يأتوا بالأسد إلى تلك المصطبة.» ومشى الخليفة إلى مصطبة في بعض جوانب الحديقة وهو يراعي ضرغاما ويكلمه، واغتنم فرصة الانتظار وأخذ يسأله عن سفره قائلا: «عسى أن تكون قد وفقت في هذه الرحلة إلى ما يسرنا.»
قال: «صدعت بأمر مولاي فرافقنا توفيقه فابتعنا الجواري ...»
فقطع كلامه قائلا: «أنت ابتعتهن؟»
قال: «كلا يا مولاي، فليس لي أن أكون تاجرا، ولكنني ساعدت الجماعة في ابتياع ما يلزم وسيصلون هنا عما قليل، وإنما تعجلت المجيء طوعا لأمر أمير المؤمنين.»
فلما قال ذلك بدا الاهتمام في وجه المعتصم وأطرق ثم قال: «سنتكلم في هذا بعد قليل.» والتفت إلى باب الحديقة فأبرقت أسرته، وأشار إلى ضرغام فالتفت فإذا بجماعة يحملون قفصا من قضبان الحديد على أعمدة. وفي القفص أسد هائج يكاد الشرر يتطاير من عينيه. فقطب ضرغام حاجبيه تهيبا وكأن شيئا جاش في خاطره؛ إذ تمثلت له الشجاعة في وجه ذلك الحيوان المفترس.
فلبث المعتصم واقفا، فلما اقتربوا بالقفص أمرهم بوضعه، فوضعوه أرضا والأسد يزأر زئيرا تصطك له المسامع، فقال المعتصم: «إنه يزأر من شدة الألم؛ لأني رميته بنبل أصاب ليته، وأخشى أن يموت منه. مع أني أحب أن يبقى حيا لأتمتع بلذة هذا الصيد كلما رأيته.» قال ذلك ومشى إلى القفص وضرغام بجانبه إلى الوراء تأدبا حتى أصبحا على بضع أذرع من الأسد. وكان بيد الخليفة نبل ليس معه من الأسلحة سواه؛ لأن صاحب لباسه أخذ أسلحته ساعة وصوله واستبقى النبل بيده يتشاغل به. فلما دنا من القفص أخذ يداعب الأسد ويشير إليه بالنبل كأنه يهم بضربه والأسد يزأر ويتململ والدم يقطر من ليته وقد جمد بعضه على صدره وقائمتيه واحمرت عيناه وتناعستا، فظن المعتصم أنه سيموت فرمى النبل عليه لمداعبته، فأصاب عينه فهب الأسد غضبا وألما ووثب يطلب الخليفة فلطم رأسه قضبان الحديد فارتد وقد اشتد غضبه كأنه جن، والمعتصم وضرغام ينظران إليه مستهزئين وقلباهما يخفقان، فإن للأسد رهبة حتى في حالة الاحتضار.
وفيما هم في ذلك وضرغام يتفرس في الأسد راثيا لما أصابه إذا بالأسد يضرب جانب القفص برأسه ضربة قوية حطمت منه قضيبين وأحدث فرجة نفذ منها خارجه، فذعر الناس وفروا مسرعين يطأ بعضهم بعضا، ما عدا ضرغاما والخليفة. ولم تكن إلا لحظة حتى هجم الأسد على الخليفة ممسكا ذراعه بمخالبه، وفتح فمه وهم بأن يلتقم رأسه، فبغت المعتصم، وذهبت قوته وأيقن بالهلاك؛ إذ لم يجد شيئا يدفع به عن نفسه ولا وسيلة للنجاة من براثن الأسد وقد ولى الناس فرارا ورعبا. على أن ضرغاما ثبت في موقفه وانقض على الأسد فقبض على فكه الأسفل بيد وعلى الأعلى باليد الأخرى، وهو يقول: «لبيك يا مولاي. سلمت بإذن الله.» وما عتم الخليفة أن سمع تمزق شدقي الأسد. وشعر بأن ذراعه تخلصت من مخالبه ثم رآه يهجم على ضرغام، ولكن هذا استل خنجره ومضى يطعنه في ليته وخاصرته وتحت إبطه، وقد غلبت عليه سورة الغضب حتى أصبح منظره أشبه رهبة من الأسد، فوقف شارباه واحمرت عيناه وتقطب حاجباه.
صفحة غير معروفة