وقبل أن تخرج دخل الخادم وقال للمرزبان: «إن سامان بالباب.» فلما سمع المرزبان اسمه انقبضت نفسه ولكنه قال: «يدخل». فدخل سامان ولا يكاد الناظر إليه يصدق أن جهان أخته؛ إذ كانت أمه جارية هندية ماتت وهو في الثامنة من عمره وسافر أبوه على أثر ذلك إلى بلاد القوقاس فلقي هناك فتاة شركسية أعجبه جمالها فتزوجها وجاء بها إلى فرغانة فولدت له توأمين هما جهان وطفلة أخرى. وماتت الأم والطفلتان صغيرتان فعهد في أمرهما خيزران ولم يتزوج بعد أمهما؛ لأنه كان يحبها حبا شديدا لفرط جمالها وتعلقها، وأحب ابنتيها لشدة مشابهتهما لها، ولكنهما لم تبلغا الثالثة من العمر حتى فقدت توأم جهان فبقيت هذه وحدها وتحولت كل محبة أبيها إليها.
ولم يكن فقد تلك الشقيقة بسبب موتها، ولكنها فقدت بطريقة عجيبة هي أن فرسا اختطفتها. وكان في تركستان جماعة من اللصوص يدربون الخيل على اختطاف الأطفال أو الأحمال بأسنانها والفرار بها إلى حيث ينتظرونها في مكان بعيد. وبقي أهل فرغانة من ذلك العهد يحذرون خطف أطفالهم بهذه الطريقة.
أما المرزبان فنظر إلى سبب ضياع ابنته نظرا آخر، وتولد البغض في قلبه لسامان من ذلك الحين، لكنه كتم السبب عن كل إنسان! •••
كان سامان قصيرا أجرد ليس في وجهه إلا شعرات متفرقة في ذقنه. وخداه منبسطان، ويخامر بياض عينيه حمرة كأنه استيقظ من رقاد، فضلا عن شدة حوله، فإذا نظر إليك حسبته ينظر إلى السقف أو إلى الباب ولا يستقر نظره على شيء. وهو يكلمك مطرقا أو محولا بصره عنك وأجفانه ترتجف، وشفتاه ترتعشان كأنه خائف تخرج الألفاظ من بينهما متلاحقة متقطعة. ولكنه كان كثير الدهاء واسع الحيلة شديد الأنانية يكره كل أحد إلا نفسه.
فلما أذن له أبوه في الدخول، دخل مهرولا، وعلى رأسه قلنسوة من الخز بلا عمامة، وقد ارتدى جبة طويلة تغطي ثيابه فكان يتعثر بأردانها، ثم وقف بين يدي أبيه وقال: «ذهبت إلى بيت كرشان شاه (هيكل المجوس بفرغانة) فلم أجد الموبذ هناك، وقيل لي أنه يعود في الصباح فهل أبحث عنه في منزله؟»
فهز المرزبان رأسه متضجرا وقال: «لقد كان في إمكانك أن تبحث عنه قبل مجيئك ولكن لا بأس ... غدا نرسل من يأتينا به. اذهب الآن.»
فرأت جهان في خطاب أبيها له جفاء زادها شكا في ميله إليه. ولم تكن قد سمعته يخاطبه بهذه اللهجة من قبل. أما سامان فقال: «لم أكن أحسبك تريده الليلة، وإلا لبحثت عنه حتى رجعت به. هل أذهب للبحث عنه الآن؟»
وكان المرزبان يحدق في وجه ابنه وهو يتكلم، فلما انتهى أدار وجه عنه وقال: «كلا، ولكن دعني الآن فإني أحتاج إلى الراحة!»
فأكب سامان على يدي أبيه يقبلهما، ثم خرج يتعثر في أذياله، وظلت جهان واقفة تنظر إلى أبيها فرأت في عينيه دمعتين تكادان تنحدران وهو ينظر إلى الشمعة المضيئة بين يدي التمثال، وقرأت حول شفتيه معنى دلها على سر في خاطره يحب إفشاءه فقعدت على السرير وتناولت يده فشعرت بعرق بارد ورعدة خفيفة فقالت: «هل تريد شيئا يا أبتاه أم أذهب؟»
فقال وهو يصلح متكأه: «اذهبي يا حبيبتي ... لا ... لا تذهبي ... لا بل اذهبي واستريحي!»
صفحة غير معروفة