قال وهو يأخذ منها الكتاب ويتصفحه: «نعم، إنه هدية من أيام دراستي الجامعية.»
في ذلك المساء قاطع الكاهن قراءتها الصامتة عندما رغب أن يردد سطرا بصوت عال كي يسمعه يتردد على لسانه. ظل يذرع المكان جيئة وذهابا خلفها، وتابع أصبعها السبابة التي كانت تمر بها أسفل الكلمات، وهو يغمغم لنفسه شارد الذهن بينما هي تقرأ. ومع بداية قصة كاليستو، هدأ حفيف سرواله. ظنت أنه ينوي توجيه سؤال لها، فاسترجعت السطور الأخيرة: «كان ثوبها العلوي مرفوعا لأعلى وشعرها مربوطا، والآن كانت تحمل في يدها رمحا هزيلا، والآن سرت في كتفيها رجفة خفيفة»، ثم نظرت خلفها. كان الكاهن مستغرقا في التفكير، وذراعاه معقودتان على صدره، وعيناه مغلقتان، وشفتاه منفرجتان قليلا. وبعد لحظة فتح عينيه ورأى أنها تنظر إليه.
قال: «بالطبع، استمري من فضلك.»
رغم أن سلوكه لم يكن عاديا، فإن إلينورا لم تستغرب، ولم يكن لديها ما يدفعها إلى الشك في أن ثمة خطأ ما عندما أخبرها الكاهن بأنه سوف يبقى بعد الدرس كي يدون بعض الخواطر. ففي الغالب كان يظل موجودا بعد الدرس لبضع دقائق فحسب، وفي تلك الأحيان كانت إلينورا كثيرا ما تقرأ وهي جالسة على أحد المقاعد في الجانب الآخر من الغرفة، ولكن في ذلك المساء لما رأت أن المكتبة خانقة بإفراط قررت بدلا من ذلك أن تستكشف الممرات التي تعلو جناح النساء. ونظرا للظلام الذي يعم تلك الممرات، فإنها كانت تظل أكثر برودة من بقية منزل البك؛ ومن ثم كانت إلينورا كثيرا ما تقضي أكثر الأوقات حرارة في اليوم تتجول فيها.
كان قلب إلينورا يخفق مضطربا في حلقها في كل مرة تجر قدميها عبر أرضية الممرات المشققة، حتى بعد أن زارتها حوالي اثنتي عشرة مرة. حملت حاشية ثوبها وانحنت قليلا، والسقف فوقها يزداد انخفاضا كلما تقدمت، أو هكذا بدا. وفي تلك الممرات المظلمة العفنة التي تفوح منها رائحة الخشب الرطب المتعفن، لم يكن بوسعها أن ترى أمامها أبعد من يدها والحوائط التي يتناقص عرضها تدريجيا. توقفت عند رقعة الضوء المتفرقة فوق المكتبة وجثت على ركبتيها، ثم انحنت للأمام وقبضت بأصابعها عبر الفتحات في الساتر الشبكي، ونظرت للأسفل نحو الغرفة التي غادرتها توا.
كان الكاهن مولر لا يزال جالسا على مكتب الكولونيل، ومن موقعها أمكنها أن ترى حمرة الشمس على مؤخرة عنقه، ورقعة صغيرة من الصلع تظهر في أعلى رأسه. لم تستطع أن تحدد في بداية الأمر ما كان يفعله، ولكنها عندما انحنت للأمام رأت أنه قد فتح درجا من أدراج المكتب وأخذ يفتش فيه خلسة. وبعد برهة من الوقت بدا أنه قد وجد ما كان يبحث عنه، ودسه في حقيبته. مدت إلينورا عنقها إلى الأمام كي تدقق النظر أكثر، وبينما كانت تفعل ذلك فاجأتها عطسة هائلة.
فنظر الكاهن لأعلى وتفحص الحجرة، ثم مرت فترة صمت طويلة. «مرحبا، الآنسة كوهين؟!»
كانت إلينورا تسمع صوت قلبها يخفق في أذنيها، وشعرت بأنفاسها تحتبس في حلقها. أرادت أن تهرب وتغادر المكان سريعا قدر الإمكان، ولكنها أدركت أنه من الأفضل لها أن تظل صامتة وساكنة. أخذت تتنفس من فم مفتوح، وراقبت الكاهن وهو يقف وينادي اسمها مرة أخرى، ثم تجول في الغرفة وهو يختلس النظر أسفل المقاعد والموائد. وعندما رأى أن الغرفة خالية، حمل حقيبته وانصرف.
طوال ذلك المساء، وطوال فترة تناول العشاء، استرجعت إلينورا ذلك الحادث في ذاكرتها، الدرج المفتوح والحقيبة، وصوت اسمها وهو يتردد. ثمة العديد من التفسيرات المقبولة لما رأته، فربما يكون قد طلب من الكاهن مولر أن يحضر مستندا للبك، أو ربما كان يبحث عن قلم مفقود أو ورقة خالية، ولكن بصرف النظر عن كم الاحتمالات التي استطاعت أن تستحضرها، فقد وجدت صعوبة في إقناع نفسها بأي شيء سوى التفسير الأكثر وضوحا؛ لقد سرق الكاهن البك. ومن وجهة نظر أخلاقية، لم يكن السؤال هو ماذا حدث؟ ولكن ما إذا كانت ستخبر الجميع بما رأته. يبدو أن أفلاطون يرى أن عليها ذلك: «إن الحقيقة هي بداية كل خير للآلهة، وفيها كل خير الإنسان.» ثم أتى دور ترتوليان: «إن الحقيقة تولد كراهية الحقيقة، وفور أن تظهر فإنها تصبح العدو.» ظلت تقلب الأمر في ذهنها طوال فترة العشاء، وخلال الألعاب النارية، وفي أحلامها.
وعندما هبطت الدرج في صباح اليوم التالي لتناول الإفطار كانت المشكلة لا تزال عالقة معها. لم تكن هي والبك يتواصلان أكثر من التحيات والمجاملات الضرورية كالعادة، وأحضر لها السيد كروم الإفطار، وتناولته كالمعتاد، ولكنها ظلت تشعر بالأمر معلقا في سماء الغرفة كما لو كان رأس كركدن محنط صامت. لم تكن قد كذبت ، ولم تخن ثقة أي أحد، ولكنها رغم ذلك كانت تشعر بأنها ارتكبت خطأ، أو أنها بالأحرى لم تقم بالفعل الصحيح حتى الآن. هل ثمة فرق بين هاتين الخطيئتين؟ تناولا الطعام في صمت وإلينورا تحدق إلى ثمار الفراولة المقطعة وهي تقطر عصيرا أحمر اللون في طبقها. كانت بحاجة إلى أن تقول شيئا، إلى أن تقوم بالفعل الصحيح، ولكنها لم ترغب في أن تشهد شهادة زور ضد الكاهن. وضعت قطعة من الفراولة في شوكتها، ومضغتها حتى ذابت في فمها.
صفحة غير معروفة