ثم قال وهو يرتدي سترة العشاء: «كنت أخطط للنهوض مبكرا وحجز مائدة، ولكن إذا رغبت في الانضمام إلي يسعدني أن أنتظرك.»
نهض يعقوب وهو مجهد قليلا ودلى ساقيه من حافة الفراش، منحنيا للأمام قليلا كي يتجنب اصطدام رأسه بالسقف. بدا كما لو كان غجريا وهو يرتدي قميصه الداخلي وسرواله المجعد، وكان شعره شعثا وعيناه الزرقاوان اللامعتان تجوبان أنحاء الغرفة.
قال وهو يمسح وجهه: «نعم، سيكون هذا لطيفا. شكرا لك.»
هبط يعقوب السلم المعدني الضعيف درجة تلو الأخرى، واستقر أمام المرآة. لم يكن السيد كوهين في حالة مبشرة على الإطلاق، ولكن بنضحة من المياه وتمشيط للشعر وتبديل للملابس تحول إلى شخص مقبول المنظر، على الأقل بالنسبة إلى مستوى السفينة. ورغم أن الإفطار والغداء لم يكونا رسميين، فقد كان الطاقم يبذل كل ما في وسعه كي يضفي جوا من الفخامة والرقي وقت العشاء. ولما كانت السفينة من الدرجة الثانية، فلا معاطف طويلة أو ملابس للسهرة، ولا دبابيس مزخرفة مصنوعة من الزمرد ولا ثريات بلورية، ولكن ببعض القماش الأحمر وأغطية الموائد المتجعدة وطباخ واسع الحيلة كانت الإجراءات تتم على نحو مرض.
قضى جيمس ويعقوب معظم وقت العشاء في تلك الليلة الأولى يتبادلان الآراء حول قصص من أسفارهما، وغني عن القول أن مبشرا دينيا وبائعا للسجاد ربما يقابلان شرائح مختلفة من سكان المدينة. وظل جيمس مدهوشا من اختلاف حكاياتهما؛ ففي كل مرات زيارته إلى شيراز لم يقابل قط عرافا أو لصا محترفا، ولكن في قصص يعقوب كانت المدينة تعج بكليهما. ومن ناحية أخرى، لم يتناول يعقوب العشاء قط مع رئيس دولة أو سفير، رغم أنه أصر على كونه مقربا من منصف بك عندما كان يشغل منصب الحاكم العثماني لكونستانتسا. ولم يكن ذلك الاختلاف في التجربة حجر عثرة في طريق الحوار، بل إنه في حقيقة الأمر أضفى عليه ثراء. وبعد تناول العشاء، ذهب الرجلان إلى غرفة جلوس تعرف باسم استراحة التدخين، حيث فتحا زجاجة من النبيذ الأحمر وأخذا يتجاذبان أطراف الحديث بينهما بنفس الطريقة حتى وقت متأخر.
كان جيمس شديد الإعجاب بمدى معرفة رفيق غرفته بالمنسوجات، فقد كان بإمكانه أن يحدد عيبا في القماش في الناحية الأخرى من الغرفة، وكان يعلم عن تاريخ صناعة السجاد أكثر من أي بائع آخر في البازار الكبير. ولكن موهبته الكبرى كانت في البيع؛ فرغم أن بضائعه مخزنة بأمان في بدن السفينة ولا يمكنها أن تخرج للعرض، فإن وصف يعقوب للسجاد وألوانه الزاهية وتصميماته الكلاسيكية وروعة الصناعة، قد أقنع أكثر من مسافر بدفع عربون كي تصلهم الشحنة لاحقا. وحتى جيمس الذي يعرف تأرجح البيع وتقلباته وكان حريصا على تقليل الإنفاق بعد إجازة طويلة كهذه، اقتنع أن يدفع عشرة بالمائة من ثمن سجادة فخمة من طراز هيركي باللونين الأبيض والأرجواني أخبره يعقوب أنها ستبدو جميلة في مكتبه ومناسبة له.
كانت علاقتهما نموذجا مثاليا للصداقات التي يعقدها المرء على متن سفينة؛ حيث لا شيء سوى الحديث، وليس المرء بحاجة إلى أن يراعي فوارق الطبقة والمكانة الاجتماعية. كان رباطا متينا قويا من النوع الذي لم يعرفه جيمس منذ أيام صباه عندما كان طالبا. وبالطبع احتفظ بأسراره الكئيبة لنفسه، ولكن مع مرور أيام الأسبوع قص على يعقوب قصة وفاة والده، وبعض أسوأ أشكال الإذلال التي قابلها لدى وصوله إلى نيو هافن، والأحداث التي أدت إلى قراره الحصول على شهادة من مدرسة اللاهوت. ومن جانبه شاركه يعقوب بعض التفاصيل الأصعب الخاصة بنشأته، والقصة المأسوية لوفاة زوجته الأولى، وقصة الزواج الخالي من الحب التي تبعتها. ولكنه لم يفصح عن ابنته إلينورا إلا في الليلة الأخيرة من الرحلة.
فضلا عن كونها الليلة الأخيرة على متن السفينة، كانت أيضا الليلة الأخيرة في عام 1885، وكانا يحتفلان. تراجعا إلى استراحة التدخين يحتسيان الزجاجة الأخيرة من نبيذ الكاهن مولر ويدخنان الفتات الأخير من غليون يعقوب. وكان الوقت قد تأخر بالفعل، أو لعله كان مبكرا، وكانت الغرفة لهما وحدهما. ارتفع دخان الغليون الأزرق فوق رأسيهما، ولم تتسلل سوى النجوم الساطعة عبر الكوات الضبابية.
قال يعقوب وهو يعدل نفسه على كرسيه: «أود أن أستشيرك في أمر.»
فقال جيمس وهو يتكئ للخلف منصتا وقد وضع كاحلا فوق الآخر: «بالطبع.» «إنه يخص ابنتي.» «نعم، لقد ذكرتها في حديثك منذ بضعة أيام. اسمها إليانور، أليس كذلك؟» «إلينورا.»
صفحة غير معروفة