فقال لها: «ألا تذكرين؟ إنني ذاهب إلى إسطنبول الشهر القادم.» «إسطنبول؟»
لم تكن إسطنبول بالنسبة إليها مجرد مكان يمكنك أن تقدم على زيارته فجأة، بل كانت مدينة للأساطير، مدينة كبرى تعرضت للدمار تتلألأ عند حافة الصحراء، العاصمة المفقودة لحضارة عتيقة، تحجرت على مدى قرون بسبب الإهمال، أو دفنت في مكان ما في قاع المحيط.
فأوضح قائلا: «سوف أبيع السجاد، وقد أشتري بعضه. فالعمل لم يكن يسير على ما يرام في الأعوام الأخيرة، وأعتقد أنني سأغدو أفضل حالا في إسطنبول.» «وكم ستغيب؟»
فأجاب: «إنها ليست برحلة طويلة، ربما تستغرق أسبوعا أو أسبوعا ونصفا حسب أحوال الطقس، ولكنني سوف أحتاج إلى الإقامة هناك أسبوعين على الأقل، أو ربما أكثر من ذلك. ولحسن الحظ، فالشخص الذي أعرفه هناك كريم مضياف.»
كيف عساها أن تعلق على تلك الأخبار؟ عندما كانت إلينورا تبذل أقصى جهدها لاستيعاب الفكرة، ظهرت روكساندرا من المطبخ حاملة وعاء من حساء الدجاج ووزعت ثلاثة أطباق. وحدقت إلينورا إلى طبقها وقلبته بملعقتها. كانت شرائح من الجزر والكرفس والبصل ودوامات من البقدونس المجفف تطفو في دوائر بطيئة تحت طبقة من الزيت. تركت إلينورا قطعة من صدر الدجاج يميل لونها بين الوردي والأبيض تطفو في ملعقتها، وحاولت أن تتخيل شهرا دون والدها؛ شهرا تقضيه وحيدة مع روكساندرا. وقد أصابها مجرد التفكير في ذلك بالغثيان.
فاندفعت قائلة: «بابا، أرجوك لا ترحل.»
وضع والدها ملعقته ونظر إليها وهو يلوك في فمه قطعة من الغضروف، فدفنت وجهها بين ذراعيها. تمنت لو كان لديها ما تقوله كي تتمكن من إقناعه بالبقاء، ولكنها كانت تعلم أن هذا لن يحدث؛ فقد حسم الأمر بالفعل.
قال: «سوف أفتقدك يا إيلي.» واتجه إلى الناحية الأخرى من المائدة ووضع يده على ظهرها قائلا: «لكنني لن أغيب أكثر من شهر.»
رددت روكساندرا: «إنه مجرد شهر، ولدينا الكثير كي نفعله في المنزل في تلك الأثناء. سوف يعود قبل أن تدركي أنه قد سافر بالفعل.»
نظرت إلينورا إلى والدها وخالتها روكساندرا، وشعرت كما لو كان عالمها بأسره يتداعى حولها، كما لو كان يتصدع منذ أسابيع ولكنها لم تطلع على الموقف إلا الآن. ازدردت لعابها بقوة، وعضت على شفتها السفلى. إن الشهر فترة طويلة للغاية، ثلاثون يوما أو ربما واحد وثلاثون، وهي رحلة خطرة؛ فثمة لصوص وحيوانات مفترسة وانهيارات صخرية وقطاع طرق. وماذا لو حدث له مكروه؟ تجمع الأسى في حلقها كموجة مالحة، لكنها أدركت أن البكاء لن يجدي، بل سيزيد الأمر سوءا. وبدلا من الاستسلام للحزن، طردت إلينورا هذا الشعور من رأسها. تذكرت الكلمات التي تفوهت بها الآنسة هولفرت إلى ابن عمها بعد وفاة والديها المأساوية: «لم لا أقرر لنفسي كيف أشعر؟ فهي في نهاية الأمر مشاعري أنا. وإذا رغبت في أن أبكي في وقت لاحق فسوف أفعل، ولكنني لا أرغب في ذلك اليوم.»
صفحة غير معروفة