وعلى الرغم من أن بوبر كان على ود صادق ببعض أعضاء حلقة فينا، وبخاصة هربرت فايجل الذي شجع بوبر على وضع كتابه الأول، فقد كان بوبر مناوئا للأفكار الرئيسية للوضعية المنطقية، ولا سيما تركيزها على نظرية المعنى في الفلسفة وعلى مبدأ التحقيق في المنهج العلمي، وقد عبر عن وجهة نظره الخاصة في العلم وعن انتقاداته للوضعيين في كتابه الأول الذي نشر تحت عنوان
Logik der Forschung
في عام 1934م، واعتبر بوبر أن هذا الكتاب قد دق ناقوس موت الوضعية المنطقية، ومن عجائب الأقدار أن الوضعية المنطقية لم تكن قد «ولدت» بعد في العالم الناطق بالإنجليزية، والذي تعرف على الوضعية المنطقية لأول مرة من خلال كتاب أ. ج. آير
A. J. Ayer «اللغة والحقيقة والمنطق» (1936م)، الذي لفت إليها الأنظار على نطاق واسع في إنجلترا، وقبل أن يترجم كتاب بوبر إلى الإنجليزية بسنوات ظلت فيها الوضعية هي التيار الفلسفي السائد في العالم الغربي.
لم تمض بضع سنوات على نشر هذا الكتاب الأول حتى بدأت غيوم النازية تتراكم في أفق ألمانيا والنمسا، واضطر بوبر، شأنه شأن غيره من المفكرين الذين ينحدرون من أصل يهودي، إلى الهجرة من النمسا عام 1937م؛ خوفا من تعقب النازيين، ألقى بوبر مراسيه في نيوزيلندا حيث قضى سني الحرب يدرس الفلسفة في جامعاتها، وكان ضم النمسا عام 1938م هو الحافز له على توجيه كتاباته إلى الفلسفة الاجتماعية والسياسية، وفي عام 1946م انتقل إلى إنجلترا كلاجئ سياسي، وساعدته صديقته سوزان ستبنج في الحصول على وظيفة، فقام بتدريس المنطق ومناهج العلوم بمدرسة لندن للاقتصاد والعلوم السياسية (وهي جزء من جامعة لندن) عام 1949م، ومنذ ذلك الحين نبه شأنه وطبقت شهرته الآفاق وانكب عن العمل الفلسفي المتواصل والإنتاج الثري، وأصبح كتابه «منطق الكشف العلمي»
Logic of Scientific Discovery (وهو الترجمة الإنجليزية لكتابه الأول) من أمهات الكتب في حقله، وفي عام 1965م منحته الأمة الإنجليزية لقب «سير»، وهو أعلى تشريف تمنحه لمواطن، ومنحته حكومة الدانمارك جائزة «سوننج» التي لم يفز بها إلا رجال من طبقة برتراند رسل وونستون تشرشل، ومنحته النمسا «وسام الشرف الذهبي الأكبر»، ومنحته الولايات المتحدة جائزة ليبنكوت للرابطة الأمريكية للعلوم السياسية، وتقاعد بوبر عن العمل بجامعة لندن عام 1969م، غير أنه ظل يمارس عمله بنشاط ككاتب ومحاضر ومحدث، حتى وافته المنية عام 1994م، وقد بلغ من العمر اثنين وتسعين عاما قضاها في خدمة التنوير ونصرة العقل.
حظي بوبر في حياته من المجد والتشريف بما لم يحظ به إلا القلة من قادة الإنسانية، وهو جدير بهذا المجد وهذا التشريف بما قدمه للعالم المتحضر من منجزات يكفي واحد منها أو اثنان لكي يضعا صاحبها في موضع فريد بين أعلى طبقة من نوابغ الفكر، ويمكن تلخيص أهم هذه المنجزات فيما يلي: (1)
أنه أول فيلسوف يلهم العلماء ويؤثر في أدائهم العلمي تأثيرا مثمرا، ويعزى الفضل لمنهجه العلمي في إنجاز كشوف علمية حقيقية. (2)
أنه حل «مشكلة الاستقراء»، ذلك الشبح القابع في خزانة الفلسفة، والذي حير الفلاسفة وأفزعهم منذ زمن ديفيد هيوم إلى اليوم. (3)
أنه قوض الوضعية المنطقية، حتى قبل أن تولد! وأعاد الفلسفة إلى مسارها الصحيح، وجعلها مرشدة للعلماء بعد أن انقلبت على نفسها وكادت تصير عالة على العلم. (4)
صفحة غير معروفة