على أن هذا الأذى يتسلل بطريقة أشد خفاء ودقة إلى داخل الفلسفة والعلوم، حيث يفرض الحكم الأول لونه على ما يأتي بعده، ويحمله على الإذعان له والانسجام معه، ولو كان الجديد أفضل وأصوب بما لا يقاس، وفضلا عن هذا، وبغض النظر عن ذلك الهوى والضلال الذي ذكرت، فإن من الأخطاء التي تسم الفكر الإنساني في كل زمان أنه مغرم ومولع بالشواهد الموجبة أكثر من الشواهد السالبة، حيث ينبغي عليه أن يقف من الاثنين على حياد، والحق أنه في عملية البرهنة على أي مبدأ صحيح يكون المثال السلبي هو أقوى المثالين وأكثرهما وجاهة وفعالية.»
فرنسيس بيكون
الأورجانون الجديد: الكتاب الأول، شذرة 46
مقدمة
باختصار، ليس العلم شيئا أكثر من منهجه، ومنهجه ليس شيئا أكثر مما قاله كارل بوبر.
سير هيرمان بوندي
يعد كارل بوبر واحدا من أهم فلاسفة العلم في القرن العشرين، إن لم يكن أهمهم على الإطلاق، ويعد فضلا عن ذلك واحدا من أهم فلاسفة السياسة والاجتماع، ونصيرا مخلصا للديمقراطية، وداعية للمجتمع المفتوح، وخصما عنيدا لأعدائه على اختلاف مشاربهم، وللشمولية في جميع صورها وتجلياتها.
آمن بوبر بقيمة العقل ودوره وقدرته، وتبنى «النقد» منهجا لعمل العقل وتقدم المعرفة، وناهض كل نزعة «ارتيابية» أو «اصطلاحية» أو «نسبية» في العلم وفي الشئون البشرية بعامة، ورد إلى الفلسفة مكانتها الرفيعة ومشروعها الطموح، بعد أن انقلبت على نفسها زمنا وكادت تتحول على يد الوضعيين المناطقة وفلاسفة التحليل اللغوي إلى تابع ذليل للعلم، وضيف ثقيل على مائدة العلماء.
ولأول مرة في تاريخ العلم الحديث، وبشكل غير مسبوق في تاريخ الممارسة العلمية، صرنا نرى كبار العلماء وأفذاذهم يتدافعون إلى مائدة أحد الفلاسفة ويتسابقون على التهام أعماله واستلهامها، ويفيدون من مناهجه واستبصاراته في نشاطهم الفعلي، ويدينون له بالفضل فيما ظفروا به من نجاح وفيما حققوه من كشوف، ولأول مرة في تاريخ السياسة الحديثة صرنا نرى أمما عريقة، كالصين،
1
صفحة غير معروفة