يتأثر التاريخ الإنساني في سيره تأثرا قويا بنمو المعرفة الإنسانية. (وهذه المقدمة لا بد من أن يسلم بها حتى أولئك الذين يرون في أفكارنا، بما في ذلك أفكارنا العلمية، نتاجا عرضيا لنوع من التطور المادي.) (2)
لا يمكن لنا بالطرق العقلية أو العلمية، أن نتنبأ بكيفية نمو معارفنا العلمية. (3)
إذن فلا يمكننا التنبؤ بمستقبل سير التاريخ الإنساني. (4)
وهذا معناه أننا يجب أن نرفض إمكان قيام تاريخ نظري، أي إمكان قيام علم تاريخي اجتماعي يقابل علم الطبيعة النظري. ولا يمكن أن تقوم نظرية علمية في التطور التاريخي تصلح أن تكون أساسا للتنبؤ التاريخي. (5)
إذن فقد أخطأ المذهب التاريخي في تصوره للغاية الأساسية التي يتوسل إليها بمناهجه، وببيان ذلك يتداعى المذهب التاريخي» (عقم المذهب التاريخي، مقدمة).
والنقطة الحاسمة في هذا الدليل هي النقطة رقم (2) التي تقول باستحالة التنبؤ بنمو المعرفة، ذلك أنه إذا أمكن التنبؤ بالمعرفة المستقبلية فإنها تكون بحوزتنا «الآن»، ولن تكون «مستقبلية». إذا أمكننا التنبؤ بالمكتشفات المستقبلية، فإنها تكون مكتشفات «حاضرة». من ذلك يترتب أنه إذا كان المستقبل يشتمل على أية مكتشفات هامة على الإطلاق، فإن من المحال التنبؤ بها علميا، حتى لو كانت محتمة بمعزل عن الرغبات الإنسانية.
37
وهناك دليل آخر: إذا كان المستقبل قابلا للتنبؤ العلمي فإنه فور اكتشافه لن يعود سرا ما دام قابلا من حيث المبدأ لإعادة الاكتشاف من جانب أي فرد، وهذا يفضي فضلا عن ذلك إلى مفارقة حول إمكان/عدم إمكان أخذ إجراءات وقائية.
لهذه الأسباب المنطقية وحدها تنهار التاريخانية. وتنهار الفكرة المحورية في البرنامج الماركسي، والقائلة بتاريخ نظري مناظر للفيزياء النظرية. وبانهيار فكرة التنبؤ العلمي بالمستقبل تنهار أيضا فكرة التخطيط الاجتماعي الشامل. ويتكشف التناقض المنطقي لهذه الفكرة أيضا بطرق أخرى: أولا لأنها لا تقدم إجابة متسقة عن السؤال: «من يخطط المخططين؟!» وثانيا لأن أفعالنا كما قلنا آنفا لها دائما نتائج غير مقصودة. وإن إغفال ذلك يوقع اليوتوبيين في مغالطة المؤامرة التي سبق لنا تفصيلها.
حين دفع ماركس بما أسماه «المذهب الاجتماعي العلمي»
صفحة غير معروفة