18 (11) ماركس
يقول بوبر في «المجتمع المفتوح»: «كانت نظرية الثورات المضادة للحرية هي دائما أن تستثمر العواطف لا أن تهدر جهدك في محاولات غير مجدية لتحطيمها». وكم رأينا أنبل الأفكار الإنسانية يهتف بها ألد أعدائها، وينجحون بذلك في اختراق المعسكر الإنساني متخفين في ثياب أنصار، فيوقعون الفرقة والاضطراب الشديد. وكم كتب النجاح لهذه الخطة الماكرة، كما نشهد من أن العديد من الإنسانيين الحقيقيين ما يزالون يوقرون فكرة أفلاطون عن «العدالة»، وفكرة العصور الوسطى عن السلطة «المسيحية»، وفكرة روسو عن «الإرادة العامة»، وأفكار فخته وهيجل عن «الحرية القومية». غير أن هذه الطريقة في اختراق المعسكر الإنساني وتفريقه وتشتيته وزرع طابور خامس غير ملحوظ (وبالتالي مضاعف الضرر)، هذه الطريقة لم تبلغ أوج نجاحها إلا بعد أن رسخت الهيجلية نفسها كأساس لواحدة من الحركات الإنسانية الحقيقية: الماركسية، وهي أنقى صورة حتى الآن من صور التاريخانية وأكثرها نضجا وأشدها خطرا.
وإنه لمن المثير للإغراء أن ينكب المرء على تفحص وجوه الشبه بين الماركسية (الجناح الأيسر للهيجلية) ونظيرها الفاشي (الجناح الأيمن للهيجلية). غير أن من الإجحاف أن نغفل وجوه الاختلاف بينهما. فرغم اتفاق الماركسية والهيجلية تقريبا في الأساس الفكري، فقد كان للماركسية دوافع إنسانية لا شك فيها. كما أن ماركس على العكس من اليمين الهيجلي قد حاول محاولة صادقة لتطبيق المناهج العقلية على أكثر مشكلات الحياة الاجتماعية إلحاحا. وإن فشل هذه المحاولة لا ينال من قيمتها، فالعلم يتقدم بالمحاولة والخطأ. وقد حاول ماركس، ورغم أنه أخطأ في مذاهبه الرئيسية فإن محاولته لم تذهب سدى. لقد فتح أعيننا على أشياء كثيرة، وجعل العودة إلى علم الاجتماع السابق عليه أمرا لا يمكن تصوره. وإن جميع الكتاب المحدثين مدينون لماركس حتى لو لم يعلموا بذلك. وإن هذا الدين لمستحق بصفة خاصة على أولئك الذين يختلفون معه في مذهبه، وأنا واحد منهم».
19
ومن الإنصاف لماركس أن نتبين إخلاصه. إن سعة أفقه وحسه بالوقائع وكراهته للحشو اللفظي (الأخلاقي بخاصة) يجعل منه واحدا من أشد المنافحين في العالم ضد الرياء والفريسية. لقد كان متحرقا لنجدة المظلومين وكان على وعي واضح بضرورة إثبات ذاته في الأفعال لا في الأقوال وحدها. ولما كانت مواهبه الرئيسية نظرية فقد كرس جهدا ضخما لكي يصوغ ما اعتقد أنه أسلحة علمية للنضال من أجل تحسين أحوال الأغلبية العظمى من بني البشر. وإن إخلاصه في بحثه عن الحقيقة وأمانته الفكرية لتميزه عن كثير من أتباعه. كان اهتمام ماركس بالعلم الاجتماعي والفلسفة الاجتماعية اهتماما عمليا بالدرجة الأساس، فقد رأى في المعرفة وسيلة لتعزيز التقدم الإنساني.
يقول بوبر: «لماذا إذن أهاجم ماركس على الرغم من فضائله؟ كان ماركس، فيما أعتقد، نبيا اختص بمسار التاريخ، ولم تصدق نبوءاته. ولكن هذه ليست تهمته الرئيسية، فالأهم من ذلك أنه غرر بأعداد من خيرة العقول إلى الاعتقاد بأن التنبؤ التاريخي هو الطريقة العلمية لمقاربة المشكلات الاجتماعية. فماركس مسئول عن التأثير المخرب الذي يحدثه المذهب الفكري التاريخاني داخل صفوف أولئك الذين يودون نصرة قضية المجتمع المفتوح.»
20
النزعة السيكولوجية عند مل: «النزعة السيكولوجية» أو «المذهب السيكولوجي»
هو ذلك الاتجاه الذي يريد أن يرد كل شيء إلى السيكولوجيا، بما في ذلك المنطق والجمال والتاريخ والاجتماع، إلخ. يقول مل: «إن جميع ظواهر المجتمع هي ظواهر للطبيعة البشرية، وقوانينه هي قوانين هذه الظواهر الخاصة بالطبيعة الإنسانية الفردية. فالبشر حين يضمون معا لا يتحولون إلى صنف آخر من الجوهر». هذه الملاحظة الأخيرة لمل تمثل جانبا من أهم الجوانب المضيئة للنزعة السيكولوجية، وأعني مناوأتها الحصيفة للاتجاه الجمعي
Collectivism
صفحة غير معروفة