تتمثل في ازدرائهم للتقليدية الخاملة عند دعامة الناس، وفي رفضهم للمساواة والديمقراطية. وفي هجومه على أعداء المجتمع المفتوح ينسب بوبر إلى معظم هؤلاء أنبل الدوافع، وينسب إلى بعضهم أعلى مستويات الذكاء العقلي، ويعترف أنهم يخاطبون فينا بعضا من أسمى غرائزنا، وأعمق مخاوفنا أيضا.
11 (8) طريقة جديدة في مهاجمة الخصوم
في الجزء الأول من «المجتمع المفتوح» نجد بوبر يتناول أفلاطون بوصفه أعلى مثال لفيلسوف عبقري تجسد نظريته السياسية رغبة في العودة إلى الماضي، ويقدم نقدا مفصلا لهذه النظرية. وفي الجزء الثاني يتناول ماركس من بين غيره بوصفه الفيلسوف الأكبر الذي تقدم نظريته إسقاطا لمستقبل كامل يتصوره في ذهنه. وقد استن بوبر في مواجهة خصومه الفكريين مبدأ جديدا يعد في ذاته درسا من أهم الدروس المنهجية المستفادة من كتاباته. لقد دأب المفكرون طوال تاريخ الجدل والمناظرة على مهاجمة النقاط الضعيفة في دعوى الخصوم، لا نستثني من ذلك أعتى المجادلين من أمثال فولتير. غير أن لهذه الطريقة عيوبا كبيرة، ذلك أن لكل دعوى جوانب قوية وجوانب أضعف. ومن البديهي أن جاذبية أي دعوى إنما تكمن في جوانبها القوية دون الضعيفة؛ ولذا فإن مهاجمة الجوانب الضعيفة في النظرية قد تحرج دعاتها ولكنها لن تقوض الجوانب القوية التي يرتكزون عليها بدرجة أكبر. لعل هذا هو السر في أننا قلما نجد الناس تتنازل عن آرائها بعد أن تخسر جدلا. فالأغلب أن تؤدي مثل هذه الخسارة في النهاية إلى تقوية موقفهم ، إذ أنها تدفعهم إلى التخلي عن الجوانب الضعيفة من نظريتهم أو تقويتها.
أما بوبر فقد كانت طريقته هي أن يواجه نظرية الخصم من زاويتها القوية، بل يحاول تقوية نظرية خصمه أكثر فأكثر وسد ثغرتها وتزويدها بمزيد من الحجج والدعامات قبل أن يشرع في شن هجومه. إنه يريد أن يجعل من خصمه «خصما جديرا بمهاجمته»، وأن ينقض على نظريته وهي في أوج قوتها وجاذبيتها. إنها طريقة مثيرة وشائقة، ونتائجها - إذا هي نجحت - قاصمة مدمرة. ومن الصعب أن تقوم لنظرية قائمة بعد أن يكون كل ما لديها من ذخر ومصادر إمداد قد تم تدميره. هكذا فعل بوبر حين تناول ماركس بالنقد المفصل، الأمر الذي دفع أشعيا برلين إلى أن يقول في كتابه عن سيرة كارل ماركس إن نقد بوبر في «المجتمع المفتوح » هو أقوى نقد للمذاهب الفلسفية والتاريخية للماركسية يوجهه إليها أي كاتب من الأحياء. ولم يتردد بريان ماجي في أن يعلن أنه يرى نفس الرأي، وأنه لا يعرف كيف يمكن لأي عاقل من البشر أن يفرغ من قراءة نقد بوبر لماركس ويبقى بعد ذلك ماركسيا. (9) أفلاطون
في الجزء الأول من «المجتمع المفتوح» يحاول بوبر أن يضع يده على السبب الذي دفع أفلاطون إلى الدعوة لأفكار شمولية. يقدم لنا هذا الجزء صورة قلمية للفتى أفلاطون، وهو يتأمل بانزعاج مجتمع أثينا القبلي يلفظ أنفاسه ويتحول شيئا فشيئا إلى مجتمع أكثر تحررا وانفتاحا، وتلتقي فيه الفوضى بفقدان الامتيازات الاجتماعية. ويؤكد بوبر روعة تحليل أفلاطون الاجتماعي لأسباب التغير الذي اعترى أثينا واقتراحاته لكبح التغير ووقف الانحدار الذي أتى به.
في محاولة لفهم وتفسير العالم الاجتماعي المتغير كما عاناه، انتهى أفلاطون إلى تأسيس علم اجتماع تاريخاني
Historicist
منهجي مفصل تفصيلا كبيرا، فنظر إلى الحكومات القائمة بوصفها نسخا مضمحلة لصورة أو مثال ثابت. وجهد لأن يعيد تشييد هذه الصورة أو هذا المثال للدولة، أو على الأقل لأن يرسم مجتمعا يقارب هذا المثال قدر المستطاع. وقد كانت مادته البنائية التي استخدمها لإعادة التشييد - إلى جانب التعاليم القديمة - هي نتائج تحليله للنظم الاجتماعية في إسبرطة وكريت، وهي أقدم صور الحياة الاجتماعية التي استطاع أن يجدها في بلاد اليونان، حيث تبين فيها أفلاطون صورا موقوفة لمجتمعات قبلية أقدم.
وبميسورنا حين نحلل علم الاجتماع الأفلاطوني أن نقف على برنامجه السياسي. كان لأفلاطون مطلبان أساسيان: الأول يتعلق بنظريته المثالية عن التغير والثبات، والثاني يتعلق بنزعته الطبيعية
Naturalism . أما النظرية المثالية فتتلخص في: «أوقف كل تغير سياسي!» فالتغير شر والثبات سمة إلهية. ومن الممكن وقف التغير إذا جعلنا الدولة نسخة دقيقة لأصلها، أي لمثال المدينة أو صورتها. فإذا سأل سائل: كيف يمكن تحقيق ذلك على الصعيد العملي، فإنه يجد الإجابة في صيغة النزعة الطبيعية «العودة إلى الطبيعة»، العودة إلى الدولة الأصلية لآبائنا، الدولة البدائية التي تأسست وفقا للطبيعة البشرية، ولذا فهي ثابتة مستقرة، العودة إلى المجتمع الأبوي القبلي لما قبل «السقوط»
صفحة غير معروفة