Civilization and its Discontents . إن أغلب الناس في الحقيقة لا يريدون الحرية! ذلك أن الحرية تقتضي المسئولية، وأغلب الناس يخشون المسئولية، فقبول المسئولية عن حياتنا يتضمن مواجهة مستمرة لاختيارات وقرارات صعبة وتحمل تبعاتها إذا كانت خاطئة. إن هذا عبء ثقيل، وكلنا يطوي جوانحه على رغبة، قد تكون طفلية، بأن يتملص من هذا العبء ويضع عن كاهله هذا الإصر. ولما كانت أقوى غرائزنا، رغم ذلك، هي غريزة البقاء وغريزة الأمان، فإننا لا نشاء أن نحول المسئولية لا إلى شخص أو شيء تزيد ثقتنا فيه على ثقتنا بأنفسنا. ولعل هذا هو السبب في أن الناس تريد حكامها أن تكون أفضل منها، وفي أن الناس تعتنق كثيرا من الاعتقادات غير المعقولة التي تدعم ثقتها بذلك وتضطرب غاية الاضطراب إذا تكشف لها العكس. إننا نريد أن نوكل أمرنا من هو أقدر منا، ونريد أن يتخذ القرارات الصعبة في حياتنا شخص أقوى منا غير أنه يحب لنا الخير، وليكن هذا والدا حازما ولكنه طيب، أو فليكن نسقا عمليا من الفكر أكثر منا حكمة وأقل خطأ. إننا نريد فوق كل شيء أن نتحرر من الخوف. ومعظم المخاوف، بما فيها المخاوف الأساسية كالخوف من الظلام والخوف من الموت، والخوف من الغرباء، والخوف من نتائج أفعالنا والخوف من المستقبل، يمكن أن ترد إلى «الخوف من المجهول». ومن ثم فنحن طوال الوقت نلح في طلب ما يطمئننا بأن «المجهول» هو في حقيقة الأمر «معلوم»! وأن ما يخبئه لنا هو شيء سنطلبه ونريده على كل حال، ونرحب بكل مذهب سياسي يطمئننا بأن المستقبل سيكون خيرا، وربما عاجلا جدا.
كانت هذه الحاجات مستوفاة في المجتمعات القبلية قبل النقدية وثوابتها اليقينية: السلطة، التراتب، الطقوس، التابو، إلخ. ومع انتقال الإنسان من المرحلة القبلية إلى المرحلة النقدية فرضت عليه مطالب جديدة مخيفة، لقد أخلي بين الحرية وبين الفرد، رمي الفرد بحريته! وصار عليه أن يسائل السلطة ويبحث في المسلمات، مما يهدد المجتمع بالاختلال ويهدد الفرد بالتخبط والضلال. ونتيجة لذلك كان هناك منذ البدء رد فعل ضد ذلك، رد فعل في المجتمع ككل ورد فعل داخل كل فرد (وهذا الرأي يعود جزئيا لفرويد). إننا نحظى بالحرية على حساب أمننا، وبالمساواة على حساب اعتبارنا لذاتنا، وبالوعي النقدي بذاتنا على حساب راحة بالنا. إنه ثمن باهظ، لا يدفعه منا أحد وهو سعيد، وكثير منا لا يودون دفعه على الإطلاق. لم يكن خيرة اليونان في شك من مزايا هذه الصفقة، ومن أنه «خير للإنسان أن يكون سقراطا ساخطا من أن يكون خنزيرا راضيا». ومع ذلك فقد حدثت ردة حكم فيها على سقراط بالموت بسبب تساؤله. ومنذ تلميذه أفلاطون فصاعدا لم نعدم عباقرة أفذاذا يناهضون أي تحول إلى المجتمع المفتوح. لقد أرادوا للمجتمع أن يعود إلى الوراء، أو الأمام، إلى ذلك المجتمع الذي كان أكثر انغلاقا.
10
مجمل القول إنه منذ بداية الفكر النقدي مع الفلاسفة السابقين على سقراط
كان هناك تيار آخر من الفكر يجري موازيا للفكر الحضاري الجديد (ولعل الأدق أن نقول يجري بداخله)، ذلك هو تيار الرجعية أو الردة المضادة لعسر الحضارة
Strain of Civilization ، والذي أنتج فلسفات تدعو إلى العودة إلى رحم القبيلة، إلى أمان المجتمع القبلي (المجتمع قبل النقدي)، أو إلى التقدم إلى مجتمع مستقبلي يوتوبي.
تفي كل من الرجعية واليوتوبية بحاجات متماثلة في النفس البشرية، وهما من ثم شبيهان تربطهما أواصر قربى وثيقة وعميقة وجوهرية، فكلاهما يرفض المجتمع القائم ويدعي أن هناك مجتمعا أمثل يوجد في موضع آخر من الزمان. وكلاهما من ثم يميل إلى أن يكون عنيفا ورومانسيا في الوقت نفسه. فأنت إذا رأيت أن الأمور تسير من سيئ إلى أسوأ، فسوف تود أن توقف عمليات التغير، وإذا رأيت أنك تؤسس لمجتمع كامل في المستقبل فسوف تود أن يدوم هذا المجتمع عندما تجده، وهذا يعني بالمثل أن توقف عمليات التغير الحالية. هكذا يهدف كل من الرجعي والمستقبلي إلى مجتمع مقيد. ولما كان التغير أمرا لا يمكن منعه إلا بأقسى وسائل الضبط الاجتماعي ، بمنع الناس من المبادرة بأي فعل قد تكون له عواقب اجتماعية خطيرة، فإن كلا التوجهين الماضوي والمستقبلي ينتهي إلى نزعة شمولية. هذا المآل قابع في كلا التصورين منذ البداية، وإن كان وقوعه يخيل للناس أن النظرية قد حرفت. لقد اعتدنا أن نسمع عن هذه النظرية الرجعية أو تلك (القول مثلا بأن أفضل حكم هو حكم المستبد العادل) أو عن نظرية المستقبل السعيد (الشيوعية مثلا) أنها نظرية جد ممتازة كنظرية وإن كانت لسوء الحظ لا تعمل كما يجب عندما توضع على صعيد التطبيق العملي. وهذه مغالطة كبيرة، فإذا كانت النظرية فاشلة على الصعيد العملي، فهذا يكفي لإثبات أنها على خطأ نظري (وهذا بغض النظر عن أي شيء هو مغزى إجراء التجربة العلمية).
ورغم أن المحصلة العملية للنظريات الرجعية واليوتوبية هي مجتمعات من مثل مجتمعات هتلر وستالين، فإن التوق إلى مجتمع كامل ليس شيئا نابعا من الخبث البشري، بل العكس هو الصحيح. إن معظم أمثلة التطرف المروع قد أتت بها قناعة أخلاقية صادقة لأناس مثاليين كانت نياتهم حسنة، مثلما كانت نيات محاكم التفتيش الإسبانية. وإن الأوتوقراطيات والحروب الأيديولوجية والدينية التي تشكل شطرا كبيرا من التاريخ الغربي لهي تجسيد ساخر للمثل القائل: «إن الطريق إلى جهنم مفروش بالنوايا الطيبة.»
كما أن التوق إلى مجتمع كامل ليس شيئا نابعا من الحماقة البشرية، ولا الحمقى هم وحدهم رواد هذا الطريق. فالحق أن التبرم بالمجتمع القائم والرغبة في الخروج عليه هما من سمات الأذكياء من الناس، بينما نجد الأغبياء وضيقي الأفق أميل إلى المحافظة وإلى قبول الأشياء كما وجدوها. ومن ثم فإن الثورة ضد الحضارة (أي ضد حقائق الحرية والتسامح وما تجرها من تعددية وصراع ومخاطر وقبول للتغير المفاجئ الجموح) كانت الريادة فيها لنفر من أعظم قادة الفكر البشري، أفرزت عبقريتهم «نزعة نخبوية»
Elitism
صفحة غير معروفة