عناية المسلمين بإبراز وجوه الإعجاز في القرآن الكريم - محمد السيد جبريل
الناشر
مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة
تصانيف
أن أعرابيا سمع رجلا يقرأ: ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ﴾ (الحجر: ٩٤) . فسجد وقال: سجدت لفصاحته، وسمع رجلًا آخر يقرأ ﴿فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا﴾ (يوسف:٨٠) . فقال:أشهد أن مخلوقًا لا يقدر على مثل هذا الكلام) (١) .
وإذا كان العرب -وهم بهذه المنزلة بلاغة وفصاحة-قد عجزوا هذا العجز التام المطبق، فغيرهم أشد عجزًا، وأبعد هزيمة.
لقد عنى العلماء بإبراز بلاغة القرآن في هذا المضمار تطبيقا، ولو تتبعنا ذلك من خلال أبواب البلاغة المتعارف عليها لاستغرق ذلك تفسير القرآن كله، ولكن حسبنا أمثلة في أبرز مجالاتها، وهى الإيجاز، والتشبيه، والاستعارة، نذكرها موجزة غير مطولة:
فمن أشهر ما ضربوه مثلا في باب الإيجاز قول الله تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ (البقرة:١٧٩) . فإنهم قارنوه بما استحسنوه من كلام العرب: (القتل أنفى للقتل) فظهر البون شاسعا، والتفاوت بعيدًا في البلاغة والإيجاز كليهما، وذلك من وجوه أربعة: أولها: أن عبارة القرآن أكثر فائدة مما قاله العرب لاشتمالها على ما قالوه مع زيادة معان حسنة، منها إبانة العدل لذكره القصاص، وإبانة الغرض المرغوب فيه لذكره الحياة، ومنها الاستدعاء بالرغبة والرهبة لحكم الله به، الثانى: أنها أوجز، فإن عبارة القرآن (القصاص حياة) عشرة أحرف، وأما (القتل أنفي للقتل) فأربعة عشر حرفًا، الثالث: بعد عبارة القرآن عن الكلفة بالتكرير الشاق على النفس، والرابع: حسنها بتأليف الحروف المتلائمة، وهو مدرك بالحس، وموجود في اللفظ، فإن الخروج من الفاء إلى اللام أعدل من الخروج من اللام إلى الهمزة، لبعد الهمزة من اللام، وكذلك الخروج من الصاد إلى الحاء أعدل من الخروج من الألف إلى اللام،
_________
(١) الشفا: ١/٢١٩،٢٢٠
1 / 37