أما النقطة الرابعة فيما يستدعي التفكير عن العربي في موقفه بين ثقافته الأصيلة التي كانت من مبدعات أسلافه، وما قد استحدثته حضارة هذا العصر من ظروف قد لا تصلح له ولا يصلح لها، فماذا هو صانع بميراث عزيز عليه إزاء عصر جديد؟ إنه على كثرة ما تناول هذا الكاتب موضوع «التراث» وما عساه يؤثر به في العربي المعاصر سلبا أو إيجابا، فهو يزداد إيمانا بأن مشكلة «التراث» مصطنعة إلى حد كبير، وربما كانت علة اصطناعها هي أن طائفة ضخمة من العرب المتعلمين قد أوشكت أن تنحصر فيما يقرأ من كتب السلف، فأصبح هذا المصدر الوحيد هو عالمهم الذي عاشوا فيه طلابا للعلم، ويعيشون فيه رجالا من أصحاب العلم؛ فمن الطبيعي لكل إنسان أن يعلي من شأن مصدر علمه ومورد رزقه. وإذا كان لهذا المصدر والمورد من يقاومونه فهم غالبا ما يكونون من طائفة أخرى، انحصرت مصدرا وموردا في عالم آخر، هو عالم المعرفة المنقولة عن بناة عصرنا من علماء ومفكرين وأدباء ورجال فن وغيرهم.
ولكننا إذ أغضضنا النظر عن ذلك الجانب الشخصي في الاختيار أو الرفض، ونظرنا في تراثنا نظرة موضوعية محايدة، تجسمت أمامنا مغالطة منطقية عجيبة ، لا يبعد أن تكون هي التي أحدثت لنا هذه البلبلة كلها في موضوع «التراث» وموقفنا منه في عملية التحديث إذا ما رغبنا فيه وأردناه، وتلك المغالطة المنطقية هي في توهمنا بأن «التراث» هو كتلة واحدة، إما أخذتها وحملتها، وإما تركتها. وحقيقة الأمر بعيدة كل البعد عن هذا التصور الوهمي العجيب؛ فما نسميه «تراثا» هو عالم إذا كان له أول فليس له آخر، وإذا كان له آخر فليس له أول. إنه عالم أوسع من المحيط، يشتمل على جميع ما أبقت عليه الأيام بعد أن فعلت عوامل الفناء فعلها، مما أنتجته عصور توالت على الدنيا بعد عصور. وفي ذلك الخضم الهائل آثار من كل ما يطوف بخاطرك وما لا يطوف من فنون القول وضروب الفكر، وألوان الفن والأدب، وما شئت وما لم تشأ مما خطه قلم، أو إزميل، أو رسمته فرشاة المصور، أو ما تناوله بالعد والحساب علماء الرياضة والفلك وغيرها من علوم. ومن ذلك المحيط الزاخر بمحتواه، الذي لا يسعه واسع ولا يصل إلى أعماقه غواص، تنشأ لنا ثلاث حقائق (بين ما ينشأ) لا يرتاب في أيها مرتاب؛ الأولى، وهي أن ذلك التراث موجود، أراد أبناء هذا العصر، الذين هم الوارثون، أم لم يريدوا. والثانية هي أنه يستحيل على فرد أن يحيط بهذا الموجود كله، وأنه لمن أراد أن يختار من ذلك الكم الهائل ما شاء وما استطاع، وهو لن يعدو أن يكون ما تكون الحبة من كومة الغلال. والثالثة هي أن الفرد الواحد في حالة الاختيار، يجمل به أن يختار شيئا يتفق وميله، حتى يتم في شخصه تواصل بين الماضي والحاضر. وأمام هذه الحقائق الثلاث، ماذا يعني ما نسميه «إحياء التراث»؟ إنه يعني مجموع ما قد حصله المحصلون الذين اختاروا ما اختاروه ، فدرسوه أو طالعوه؛ إذ ليس من الإحياء أن يعاد طبع القديم ليرص على رفوف المخازن، وإنما يكون إحياء القديم بأن يصبح في قلب حي من الأحياء أو في عقله، لا على سبيل الحفظ عن ظهر ذلك القلب أو العقل، بل ينخرط مع غيره من أجزاء المعرفة الموجهة للإنسان في سلوكه. إننا كثيرا ما نتحدث عن العالمين بتراثنا، وكأن تراثنا له «عالم» معين يحمله على كتفيه. وحقيقة الأمر أنه قسمة بين ملايين العارفين، كل في حدود اهتمامه وتخصصه. ومع ذلك فيجب التفرقة بين ما هو علم وما هو فن وأدب، في هذا التراث ومن يحيونه في قلوبهم وعقولهم؛ فبينما للعلم متخصصون يختلفون باختلاف المجال، فإن معظم الأدب - شعرا ونثرا - يمكن أن يكون من شأن الجميع، وأهميته عظيمة في تعاطف المحدثين مع القدماء. وخلاصة ما نريد قوله في هذا الصدد، هو أن «التراث» وإحياءه يجب أن ينظر إليه من زوايا الأفراد، لينظر إليه موضوعا موضوعا وكتابا كتابا، ليكون لكل فرد ما يختص به، فتزول بذلك «الكلية» الوهمية التي تجعل من التراث كله موضوعا واحدا يحمله كل فرد على حدة، وتحييه الحكومات والهيئات، كأنه عبء ثقيل المهم فيه أن ينزاح عن الصدور.
وعلى ضوء هذا الذي أسلفناه؛ نسأل عن دور التراث في تكوين العربي المعاصر، فيجيئنا الجواب في ترتيب بعكس الوهم القائم؛ فبدل أن نتوهم العربي وقد حمل تراثه على ظهره، وأراد الدخول به إلى عصره، نعيد الترتيب ونقول: إن العربي في ممارسته لحياته في عصره عليه أن يختار من تراث السلف ما يعينه روحا وعقلا في حياته بلا تكلف ولا افتعال، فمن ذا الذي لا يريد «لغة» عربية في حياته، ومن ذا الذي لا يريد أن ينبض قلبه مع نبضات شاعر صنع من تلك اللغة زهرة عطرة؟ من ذا الذي لا يريد أن ترتفع ثقته بنفسه بأن يتقدم إلى عصره منتميا إلى سلف يفاخر بهم؟ (5)
أما النقطة الخامسة فهي وقفة متسائلة في صدق يأبى أن يخدع النفس عن حقيقة أمرها في موكب الحضارة العصرية وثقافتها، وتلك الحقيقة المرة هي أن موقعنا من ذلك الموكب هو موقع الضعيف يسير في المؤخرة تابعا لمن ساروا في الطليعة يشقون الطريق، ولم تكن الأمة العربية وحدها هي التي رضيت لنفسها بهذا الموقع، بل زاملها فيه بلاد كثيرة أخرى، أراد لها التاريخ أن تعد «شرقا» إذا ما قسم العالم إلى شرق وغرب، ليكون اسم «الشرق» دالا على الضعف والتخلف، وليكون اسم «الغرب» دالا على القوة والتقدم، ثم لم يلبث التاريخ أن أضاف قسمة أخرى لأقطار الأرض بأن قسمها «جنوبا» و«شمالا» ليدل باسم «الجنوب» على الفقر والعجز، وليدل اسم «الشمال» على الغنى والقدرة. لكن إذا كان ثمة ما يبرر لكثير من الشعوب الضعيفة الفقيرة المتخلفة العاجزة أن تكون كذلك؛ لأنها لا تستند إلى ماض حضاري ثقافي رائد، فماذا يبرر هذه النكسة للأمة العربية؟ ماذا أصابها لتدرج مع «الشرق الجنوب» ولا تلحق ب «الغرب الشمال»؟ ترى ما هو العامل الفاصل بين هذين القسمين؟ أيكون ذلك العامل أساسا هو القوة العسكرية، قويت هناك فسيطرت، وضعفت هنا فهان شأنها وغزاها من غزاها؟ يجوز وعندئذ لا يسعنا إلا أن نلحظ مقارنة بيننا - نحن الأمة العربية - وبينهم؛ فأولا: إن حضارتهم وما يلحق بها من ثقافة، إذا رددناها إلى مصادرها، كان اليونان والرومان القديمتان هما المنبع، فما حاضر «الغرب الشمال» بكل قوته وعلمه وتراثه إلا امتدادات تطورات من ذلك النبع الكلاسيكي. وأما حضارتنا أو قل حضارتنا المتتابعة مع أجنحتها الثقافية، فهي إذا ردت إلى ينابيعها الأولى، كانت تلك الينابيع هي الإيمان الديني وما يتفرع عنه بعد ذلك من ظواهر حضارية وثقافية. وثانيا: إنهم حين أصبحت في أيديهم القوة العسكرية، استخدموها في البطش بمن وجدوه ضعيفا ليستثمروه وليستذلوه، في حين أننا نحن عندما كنا أصحاب قوة عسكرية، فقد استخدمناها في جهاد ننشر به الدعوة وبعبارة أخرى ننشر به حضارة وثقافة.
وأمام هذه المقارنة الموجزة السريعة، فإن سؤالا يلح علينا كلما صدمتنا الفوارق الواسعة بيننا وبينهم في القوة، والمغامرة، والعلم، وسرعة التغير، والثروة، وهو سؤال يسأل: ما الذي ينقصنا حتى انتهى أمرنا إلى ما انتهى؟ أين ذهبت الطاقة الحضارية والثقافية التي ما فتئت تتفجر وتومض ببريقها هداية للآخرين؟ إنه لا يبقى أمامنا فرض نفرضه لتعليل هذا التدهور إلا أن نقول: ربما كانت القدرة على إبداع العلم الطبيعي، الذي يقرأ الكون ويستخرج قوانينه، وسرعان ما تتجسد تلك القوانين في أجهزة وآلات تشق الفضاء، وتغوص في الماء، وتزيد إنتاج الصانع ومحصول الزارع مئات المرات عما كانت، ومن تلك القوة يكسب الإنسان من الحرية ما لم يكن يحلم به لأنها هذه المرة حرية من نوع فريد وفعال، وأعني الحرية التي تزيح عن عاتق الإنسان ما تقهره به عوامل الطبيعة، حتى باتت العلوم الطبيعية وما يتولد عنها، من أبرز ما يميز هذا العصر. ونحن نسأل: أيكون رفضنا العميق لهذه العلوم، هو ما شل فينا المشاركة فيها، فكان ما كان من سيادة أصحابها وتبعية الآخرين؟ لكنه سؤال مردود علينا؛ لأننا ندين بدين يكرر لنا الحض على قراءة خلق الله، من زرع، وحيوان، ونجوم، ومطر، ومئات الظواهر الطبيعية التي ساقتها آيات الكتاب الكريم، فإذا أضفنا هذا الحافز الديني إلى ما نبغ فيه أسلافنا من علوم رياضية، عندما كانت هذه العلوم هي وحدها التي تشغل العلماء ومعها ضروب العلم الأخرى التي إن لم تكن رياضية، فهي تنهج منهج الرياضة في توليد النتائج من المقدمات، أقول: إننا إذا أضفنا تاريخنا العلمي إلى حفز الدين لنا نحو العلم بالكون، حق لنا أن ندهش لما أصابنا، لكنها دهشة المتفائل بأن ينتهي بنا عصر البيات الشتوي الذي غمرنا قرونا حتى غفونا عن ركب الحضارة الجديدة، إلى يقظة لا تريد منا إلا شيئا واحدا فينصلح الأمر، وهو أن نضيف إلى ما قد ورثناه من مجد، قدرة جديدة نكتسبها بالدخول في معمعان البحث العلمي بمعانيه الجديدة وبوسائله الجديدة، دخولا نصدر فيه عن إيمان قلبي، ولا نكتفي فيه - كما نكتفي الآن - بلمسات الأصابع. نعم ربما نكون قد عبرنا جسورا كثيرة نحو هذا الهدف، لكننا في كل ذلك كنا كمن يحوم حول الحمى ولا يقتحم أسواره ليغزوه. (6)
وأما النقطة السادسة فهي عن حياتنا «الفكرية» ومدى فقرها، وما نعنيه بالحياة «الفكرية» هو شيء لا يندرج في مجموعة «العلوم»، وكذلك لا يندرج في عالم «الفن والأدب»، ومع ذلك فالأفكار الكبرى ، كالحرية، والديمقراطية، والمساواة ... إلخ، تمد أطرافها لتسري في دنيا العلوم وفي عالم الفن والأدب على السواء، لا من حيث هي جزء من مضمونات هذا أو ذاك، بل من حيث هي بمثابة شروط مسبقة يجب أن تتوافر ليزدهر هذا وذاك معا. ليست الأفكار من جنس قوانين العلم، ولا هي من جنس ما يبدعه الفنان أو الأديب، وخذ هذه الأمثلة من عالم «الفكر»: لمن من أبناء الشعب يكون الحق في صنع القرار؟ هل تكون التجارة مع الخارج حرة أو مقيدة؟ ماذا نرى في مجانية التعليم؟ أيهما أحق بالوجود: أن يتحد العالم كله في وحدة دولية، أم أن تترك الأولوية للشعور الوطني والانتماء القومي؟ وهكذا فهذه أسئلة يتوقف على سداد الإجابات عليها تشكيل الحياة، ومع ذلك فهي أسئلة لا تجيب عليها العلوم، بل يجيب «الفكر» عند «المفكرين».
وإذا استعرضنا حياتنا الثقافية كما هي قائمة، وجدنا جانب «الفكر» أضعف جوانبها؛ إذ قد يكون لدينا ما يرضينا في الأدب والفن. وأما في عالم «الأفكار» فنحن تحت خط الفقر، وذلك يعود إلى سببين؛ أولهما أن «الفكرة» من الأفكار الكبرى، تنمو مع الزمن؛ فليست «الحرية» اليوم تعني للمعاصرين ذلك المعنى الضيق الذي كانت تعنيه للقدماء. ومع ذلك فنحن نسهو عن هذه الحقيقة ونقنع في حياتنا الفكرية بما ورثناه عن آبائنا، فإذا لم نقنع بموروثنا نقلنا عن الغرب أفكاره، فلا يكون الفكر فكرنا. والسبب الثاني في ضعف الجانب الفكري من حياتنا الثقافية، هو عسر الضوابط التي تضمن للفكرة أكبر نصيب ممكن في نجاح تطبيقها على الحياة العملية. وليس فينا من يصبر على عناء التحليل الذي يتعقب العناصر الداخلة في تكوين الفكرة، وتعقب تلك العناصر إلى أدق تفصيلاتها. ولا عجب أن ساد الغموض الشديد معظم ما نعرضه على الناس في هذا السبيل. (7)
النقطة السابعة هي أننا قد عكسنا الترتيب الطبيعي بين الفكر السياسي من جهة وتطبيقه من جهة ثانية؛ فالطبيعي أن يفكر المفكرون ثم يجيء رجال السياسة فيتشربون الحصيلة الفكرية ليجروها في قنوات الحياة العملية. لكن الذي يحدث على الأغلب في حياتنا هو أن تسبق إرادة القائد السياسي فكر المفكر. وسرعان ما يجعل هذا المفكر نفسه ظلا لما أراده السياسي فتنتج نتيجتان كلتاهما مصدر للخطر؛ الأولى أن تتعدد الإرادات بتعدد القيادات، فلا يتاح لروافد المفكرين العرب أن تجتمع في نهر واحد عظيم. والثانية أن تجيء الأفكار خادمة لعواطف القيادات وشهواتها، فتفقد أهم الضوابط العقلية التي تضمن لها قدرا من الصواب. (8)
ولقد حللنا الشخصية العربية على ضوء تاريخها ومنجزاتها، فوجدناها في هيكل بنيانها تتألف من قبول إيماني بحقيقة كبرى لا تتناهى إلى حدود تحدها، ثم تجيء بعد ذلك قدرات عقلية فتستنبط من تلك المقدمة الكبرى نتائج. وبهذا التركيب جمع العربي إيمانا إلى علم، وكان هذا الدمج بين الجانبين في رؤية واحدة أهم سمة ميزت فكره وثقافته، ثم ذهبت عنه القوة المبدعة، ونال منه الضعف، فغابت عنه رؤيته بشقيها، فلا الجانب الإيماني ظل حيا ولودا كما كان، ولا القدرة على الفاعلية العلمية التي تستولد النتائج قد بقيت بعد أن نضب معينها. ولو عادت إلى العربي ثقته بنفسه لأعاد هيكله القديم أصلا إيمانيا وفروعا علمية، ثم أدمج فيه ركائز أخرى تحمل جانبا جديدا هو قراءة كتاب العالم. (9)
وأما النقطة التاسعة والأخيرة، فهي أقرب إلى نظرة مستقبلية، نرجو بها للعربي نهضة، ينجو بها من حياة التبعية والمحاكاة، ليدخل عالم الإبداع.
صفحة غير معروفة