لا يا ولدي، لا تقنط من رحمة الله، إذا رأيتنا نتخبط بين الخطأ والصواب، وسأقص عليك لمحات من خبرتي في هذا الصدد عبر السنين ، مكتفيا في ذلك بنوع واحد من مزالق الإنسان نحو الخطأ، إلا إذا تولاه الله برحمته، وأعني ذلك النوع من الخطأ الذي يميل بالإنسان إذا ما عرف حقيقة جزئية من حقائق الوجود، وقف عندها، محدودا بحدودها، على ظن منه أنها هي الحق كل الحق، دون أن يسعفه التوفيق فيمد بصره ليجاوز حدودها، ولو فعل لرأى تلك الحقيقة الجزئية إنما هي جزء من كيان أكبر منها، يشتمل عليها وعلى أخوات لها كثيرات، وعندئذ - يا للعجب - تزداد حقيقته الجزئية الأولى سطوعا ونصوعا. إنها تزداد حقا على حق، ولا ينقص نصيبها القديم من الحق شيئا. وهكذا، فكلما اتسع الأفق في معرفتنا بالكائنات، ازدادت معرفتنا عمقا، ونتيجة لرؤيتنا للجزء الواحد وهو في جسمه الكبير.
تتغير نظرة القروي إلى قريته إذا عرف أين موقعها من إقليمها، وأين موقع الإقليم من رقعة الوطن، وأين تقع رقعة الوطن من كوكب الأرض. ومع هذا التدرج في اتساع الأفق تزداد معرفته بقريته دقة، وتتغير معرفة طبيب «القلب» كلما عرف الروابط التي تربط القلب بغيره من أعضاء الجسم كالرئتين والكبد وغيرهما. وانظر كم تغير من علوم الإنسان، بعد أن تغيرت فكرته عن كوكب الأرض؛ فبعد أن كان على ظن بأن كوكبه الأرضي ثابت في مكانه، لا يتحرك ولا يدور، وأن سائر أجرام السماء هي التي تدور حول الأرض، كأن الأرض هي المحور المركزي وبقية العالم لواحق وأتباع، عرف الإنسان أن الأرض كوكب كغيره من كواكب المجموعة الشمسية، يدور حول نفسه ويدور في الوقت نفسه حول الشمس، وبالدورة الأولى يحدث الليل والنهار، وبالدورة الثانية تتتابع الفصول الأربعة. وكل هذه الفروق بين النظرتين، نتجت من وضع الجزء في موضعه من الكل الذي يحتويه. وقارن بين من يتعامل مع الناس بمعرفة محدودة عن «العدد»؛ إذ هو لا يعرف عنه إلا بضعة أعداد قد لا تتعدى المائة أو المئات، دون أن يكون له تصور شامل لتسلسل الأعداد كيف يبدأ من الصفر فصاعدا إلى غير نهاية، أقول: قارن مثل هذا الرجل بمن اتسعت معرفته الرياضية بالعدد وغيره مما ينتج عنه. ولقد سقت هذا المثل إذ تذكرت قصة وردت عن أعرابي قديم، يحكى عنه أنه اشترى من سوق السلع المستعملة كيسا كبيرا مما تعبأ فيه الغلال أو ما يشبهها، وبعد أن مضى في سبيله، تذكر بائع الكيس أن به حليا من الذهب والأحجار الكريمة، فلحق بالأعرابي ورجاه أن يبيع له ما قد اشترى، وعرف الأعرابي بالكنز النفيس الذي احتواه الكيس، فقال: إني أبيعه بألف دينار. وتمت الصفقة، فعجب من الأعرابي رفيق له كان يصاحبه على الطريق، وسأله دهشا، كيف تطلب ألف دينار في مثل هذا الكنز النفيس؟ فأجابه الأعرابي: أهناك في العدد ما هو أكثر من ألف؟ والله لو علمت ذلك لطلبت أكثر. وهذا مثل آخر لمن يتقيد علمه في حدود ضيقة؛ لأنه لم يستطع أن يضع الجزء في سياقه الواسع الذي يحتويه، والأمثلة على ذلك لا تنتهي.
على أن ذلك المنزلق الفكري الذي يؤدي بالإنسان إلى خطأ، لا يقتصر على الريفي المحدود بحدود قريته، أو البدوي المحدود بحدود خبرته، بل قد يتعدى هؤلاء ليشمل من ظفروا من العلم بنصيب ارتفع بهم درجات، لكن التعصب أو ما لست أدري كيف أسميه، يعمي أبصارهم، حتى ليقفوا عند «الجزء» الذي يتعصبون له، بحيث يرون فيه الحقيقة المطلقة كلها. وما أكثر ما وقع كاتب هذه السطور في مثل هذا الخطأ الفكري العجيب! والمثل الذي أتخيره لأسوقه إلى القارئ في صدد ما نحن فيه، هو الموقف الفلسفي الذي اتخذه لنفسه «برتراند رسل» الذي هو بغير نزاع في ذروة الفكر الفلسفي المعاصر، وهي ذروة لا يشاركه فيها إلا أنداد قلائل؛ فعصرنا عصر «علم» في المقام الأول، وبرتراند رسل في طليعة من يفلسفون ذلك الجانب «العلمي» من جوانب عصرنا. ولكي أشرك القارئ معي في الرؤية، لا بد لي من تمهيد موجز وشارح؛ فقد عرف تاريخ الفلسفة من قبل ضربين من النظر إلى الكون من حيث «وحدته» أو «تعدده»؛ فهناك من رأوا توحدا للكون برغم كثرة ظواهره، بمعنى أن جميع الظواهر يمكن ردها إلى «خامة» واحدة (إذا جاز هذا التعبير) لولا أن هؤلاء ينقسمون بين أنفسهم طائفتين؛ إحداهما تجعل «الخامة» المشتركة «روحا» أو ما يندرج في سمائها، وأما الطائفة الأخرى فتجعلها «مادة » أو ما يندرج في طبيعتها. ويترتب على هذا الانقسام في النظر، أن نجد الطائفة الأولى تفهم جميع ظواهر الكون فهما يردها إلى أصل روحاني. كما نجد الطائفة الأخرى تردها إلى طبيعة مادية. ولعل أهم ما يهم الكثرة الغالبة من الناس في هذا الصدد هو «الإنسان» وكيف نفهمه؟ فالطائفة الأولى ترد كل تصرفات الإنسان وجميع حالاته الداخلية إلى جانب «الروح» منه. وأما الطائفة الثانية فلا ترى في الإنسان إلا «ظاهرة» طبيعية مادية، لا تختلف عن سائر الظواهر إلا في درجة التركيب، وهي درجة انتهت به إلى ما هو فيه من «وعي» و«عقل» وما إلى ذلك. إذن فهاتان شعبتان من أصحاب النظرة الموحدة لظواهر الكون بردها إلى أصل واحد. والشعبتان - كما ترى - يتفقان في وحدانية «الأصل»، لكنهما يختلفان في طبيعته. وإلى جانب هذا الرأي الموحد للكون، كان هنالك دائما فريق يرى أنه يتعذر عليهم تصور جانبي «الروح» من جهة و«المادة» من جهة ثانية. وقد تلاقيا معا آخر الأمر في «أصل» واحد؛ فلا الروح في رأيهم يمكن أن تكون مادة، ولا المادة يمكن أن تكون روحا؛ ولذلك اختاروا لأنفسهم موقفا «ثنائيا» يجعل كلا من الجانبين أصلا قائما بذاته. وتحت هذين المذهبين؛ مذهب التجانس في الكون برغم كثرته البادية في اختلاف ظواهره، ومذهب عدم التجانس الذي يقسم المضمون الكوني قسمين متضادين، هما الروح والمادة.
وعلى هذه الصورة جاء برتراند رسل في عصرنا هذا، وجاءت معه حركة النظر التحليلي الذي بلغ دقة رياضية لم يعرفها الإنسان من قبل. وهنا وجد الرجل بين يديه «أصولا» لا هي ترد إلى «واحد» ولا هي مما يكتفي بأصلين اثنين، بل هي تنوع متعدد الأصول، وحتى عندما أخذ هذا التعدد يضيق معه على مر الأعوام، حتى انتهى آخر الأمر إلى رد الكون كله إلى «أحداث» تتجمع هنا وتتفرق هناك، وما يسميه هنا بالأحداث هو ما يقع على حواس الإنسان من لمعات الضوء، ونبرات الصوت، ولمسات الجلد وهكذا، وهي فكرة تبلورت عنده (ومعه آخرون قليلون) انعكاسا للطبيعة النووية في العلم المعاصر. أقول إن برتراند رسل، حتى حين انتهى آخر الأمر إلى ما يشبه الأصل الواحد للكون، وهو «الأحداث» بالمعنى الذي يفهم به هذه الكلمة؛ فواضح أن وحدانية الأصل هنا تتجزأ في أنواع مختلفة، لم يتردد في أن يذهب إلى «تعددية» الكون، فلا هو واحد في خامته الأولية، ولا هو اثنان، بل هو «كثير».
واكتفى بهذا التمهيد الشارح برغم قصوره، لأقول إن كاتب هذه السطور يذكر جيدا ذلك العهد من أعوام حياته، الذي أحس فيه بالحيرة الفكرية التي جاهد ما استطاع ليجد لها مخرجا يحلها؛ فربما لم يجد برتراند رسل بين عقائده الأولية ما يبعث فيه القلق، وأما هذا الكاتب فعقيدته الدينية «توحيد» الخالق سبحانه وتعالى. على أنه - أعني هذا الكاتب - يتعذر عليه أن يتصور إيمانا بالتوحيد الإلهي، لا ينتهي بالمؤمن إلى رؤية توحد له الكون، وتوحد له كيانه البشري، وتوحد له كثيرا جدا مما قد تراه العين متكثرا؛ ولهذا فهو يحس قلقا شديدا إذا قيل له إن الكون طبيعته الأساسية كثرة يستحيل رد بعضها إلى بعض؛ ومن ثم لم يكف عن البحث، لعله يهتدي إلى تصور يزيل عنه الحيرة.
وإذا غضضنا أبصارنا عن برتراند وفلسفته التي وصفها هو نفسه بأنها «تعددية» وقلنا لأنفسنا هذا فيلسوف إنجليزي وما يراه، فما لنا نحن به وبما يراه أو لا يراه، كان علينا أن نتذكر أن العلم الطبيعي في حد ذاته، من حيث هو «علم» لم يفلسفه لنا أحد، وجدنا أن الموقف التعددي لا يزال قائما أمامنا وكأنه يتحدى؛ وذلك لأن ذلك «العلم» بشتى فروعه، لا يكون شيئا إذا لم يكن عمليات تحليلية إلى آخر المدى، فما يظهر لنا أنه موحد يجيء العلم فيحلله إلى عناصره؛ فلا «الماء» يظل ماء، ولا «الهواء» هواء، ولا «الشجرة» شجرة، ولا «العصفور» عصفورا؛ لأن كل هذه الكائنات مركبات من عناصر أولية، إذا تجمعت وتفاعلت نشأ الماء والهواء والشجرة والعصفور. وأما العناصر الأولية ذاتها فتبقى عناصر تستعصي على التحليل. إذن فهنالك عدة أوليات هي التي ينسج منها ما ينسج من أوليات، فما الذي يوحد لنا تلك العناصر في جذر أساسي واحد، يشبع فينا فطرة «التوحيد»؟
نعم «فطرة» التوحيد، نحن إذ نقول إن الإسلام دين «الفطرة» نعني بين ما نعنيه الاعتقاد بوحدانية الله عز وجل، وهو اعتقاد نزلت به الرسالة وحيا، ولكنه صادف فطرة تؤمن به فور الدعوة إليه، وهنا قد يقال: إن «التوحيد» هنا توحيد للخالق جل وعلا. فما لك تخلط الأمور وتنقل التوحيد إلى مقومات الكون ومكوناته ليصبح أمام العقل كونا موحدا متناغما متكاملا؟ والجواب هو أن الفطرة الإنسانية التي آمنت بإله واحد على سبيل الإيمان الديني، هي نفسها الفطرة التي تميل نحو أن يلتئم الكون كله في وحدة واحدة برغم كثرة عناصره وظواهره.
ويبدو أن إدراك الإنسان الفطري للكائنات من حوله، بل وإدراكه لذاته حين يتأملها من باطن، يرى كل شيء أول ما يراه على أنه موحد، حتى ليطلق عليه اسما واحدا ليميزه، فيرى الشجرة ويقول «شجرة» على أنها كائن واحد، فإذا ما نما إدراكه في مرحلة أخرى من مراحل عمره، حفزه دافع آخر من دوافعه الفطرية إلى أن يتناول بالتحليل ذلك الذي كان قد اعتبره كائنا واحدا. وها هنا تكون مرحلة «العلم» بالأشياء وحقائقها، فيتعقب الشجرة التي كان قد رآها، تحليلا لعناصرها، وطريقة نموها وإثمارها، وهكذا. وذلك هو ما يضطلع به علم النبات، حتى إذا ما أشبع في نفسه حاجتها إلى المعرفة، عاد سيرته الأولى، وجعل الشجرة في إدراكه وفي تعامله مع الناس، شجرة موحدة كما كانت أول مرة. ولك بعد ذلك أن تنظر إلى أمثلة توضح لك هذه الخطوات؛ إدراك للكل في جملته أولا، تحليله إلى مكوناته الجزئية ثانيا، العودة إلى إدراكه موحدا ثالثا. لكن هذه الخطوة الثالثة، وإن تكن قد أعادتنا إلى حيث كنا في الخطوة الأولى، إلا أنها في حقيقة أمرها تختلف عنها بما قد أضافته من علم تفصيلي بالشيء، بعد أن كنا نسميه، ونتعامل معه وبه ونحن على جهل بحقيقته.
خذ مثلا موقف الإنسان من اللغة التي يبدأ في تعلمها منذ طفولته الباكرة، فهو يبدأ بمرحلة يتكلم فيها ويسمع من يكلمه، فينطق بكتل صوتية ينطقها، وكتل صوتية يسمعها، دون أن يعلم أي شيء عن «المفردات» التي تجمعت وتكتلت في كيان صوتي واحد، ثم تجيء مرحلة التعلم، وها هنا تفك له الكتلة الصوتية، فإذا هي ألفاظ مستقلة كل لفظة منها عما عداها، وإذا باللفظة الواحدة تجمع من حروف، وهنا نقول عنه بلغتنا الدارجة إنه «فك الخط». وواضح أن معرفته بالمكونات التفصيلية في مرحلة التعلم والعلم، لا تمحو منه إدراكه للكل الصوتي الذي يكونه ليتكلم، والذي يسمعه حين يكلمه من يكلمه.
وإذا كان ذلك كذلك، إذن فقد انفتح أمامنا الباب الذي يخرجنا من الحيرة التي أحسست بها حيال الموقف الفلسفي التعددي عند برتراند رسل، بل ونحس بها جميعا إذا ما تأملنا العلم الطبيعي في تعدديته التي يؤدي إليها تحليل الأشياء إلى عناصرها، ما دامت للإنسان فطرته التي تنحو به نحو أن يجد في الكثرة رباطا يوحدها. والباب الذي انفتح فزالت الحيرة، هو أن العملية التحليلية للكائنات، إنما هي مرحلة وسطى على الطريق؛ فأول الطريق رؤية موحدة، وآخر الطريق رؤية موحدة، وبينهما مرحلة ألقت لنا الأضواء على المحتوى مفصلا، وبهذه الأضواء نكون قد انتقلنا في علاقاتنا بالكائنات إلى علم بها بعد جهل.
صفحة غير معروفة