ولنبدأ بالسؤال الأول؛ فمن حق المجادل أن يبدأ جداله من الصفر، قائلا: ماذا تعني ب «التقدم» و«التخلف» في هذا السياق؟ إنك لا تحكم على رجل رأيته سائرا في الطريق بأنه تقدم أو تأخر، إلا إذا عرفت هدفه الذي يسعى إليه، وحتى إذا رأيته مبطئ الخطى، فربما كان ذلك هو ما أراده لنفسه ليتيح لنفسه فرصة التأمل فيما حوله، أو فرصة التنزه المسترخي. إن الهدف الذي تلهث وراءه حضارة هذا العصر، وهو الحصول على أكبر قدر ممكن من «العلم» بظواهر الطبيعة وأكبر قدر ممكن من «المتعة» ومن «المال» ومن «القوة الحربية» وأكبر قدر ممكن من «السرعة» وهكذا، قد لا يكون أساسا هو الهدف الذي يسعى إليه العربي؛ فهو - مثلا - يستغني عن الحياة الدنيا بالحياة الأخرى. ويكفيك هذا الفرق لتعلم أن ما يلهث وراءه ابن هذا العصر، يدير إليه العربي ظهره ليستهدف غاية أخرى، فكيف - إذن - تحكم على هذا أو ذاك بتقدم أو تخلف إلا إذا استوثقت قبل ذلك من مشاركتهما معا في وجهة السير وفي الغاية المراد تحقيقها؟
سؤال كانت تكون له قوته لو أنه سلم من تناقض داخلي فيه يهدمه من أساسه هدما؛ لأن صاحب السؤال المذكور إنما يكون على حق في سؤاله، إذا هو بالفعل يسير في حياته على طريق لا حاجة فيه إلى شيء من أدوات الآخرين الذين يزعم لهم أنهم يسلكون طريقا آخر غير طريقه، ويستهدفون غاية أخرى غير غايته. وهو زعم يكذبه الواقع. إن صاحب سؤال كهذا هو في حقيقة أمره كمن يسافر من القاهرة - مثلا - فيركب طائرة ذاهبة إلى لندن، ومعه مسافر آخر من أبناء الذين صنعوا الطائرة، فلا حق له إذن في أن يدعي بأنه مختلف مع هذا المسافر الآخر، طريقا وهدفا؛ لأنه معه في الطريق وفي الهدف. وكل الفرق بينهما هو أن المسافر الآخر كان هو الذي صنع الطائرة بعلمه الجديد وبتقنياته الجديدة، في حين أنه هو - أعني المسافر العربي - قد استأجر مقعده من الطائرة بماله. إن هذا المثل الواحد البسيط يصور معظم جوانب حياتنا الواقعية؛ فنحن لا نبتكر شيئا ذا بال من وسائل الحياة القائمة، ولكننا في الوقت نفسه لا غناء لنا عنها إذا حاربنا عدوا اشترينا أدوات الحرب من صانعيها هناك، وإذا مرض منا مريض واستشفى عند طبيب أو جراح، جاء طب الطبيب علاجا ودواء وجاءت جراحة الجراح أجهزة ومنهجا، مما كان أولئك الآخرون قد علموه وابتكروه وصنعوه.
وإذا أقمنا لأبنائنا معاهد وجامعات، لم يكن لنا بد من شراء المعامل والمراجع وغيرها من أولئك الآخرين الذين كتب لهم في هذا العصر أن يكونوا صانعيه، وإذا أردنا أن نسري عن أنفسنا في ساعات الفراغ كانت وسائلنا إلى ذلك من مذياع وتلفاز وغيرهما من ابتكار أولئك الآخرين ومن صناعتهم. ولا ينفي هذا أن يتعلم عربي كيف يحاكي شيئا مما أنتجه أولئك الآخرون، فيحتذيه في صناعة شيء على غراره. إذن فطريقنا في الحياة الدنيا طريق واحد، وكل الفرق بيننا وبينهم هو أنهم هم الذين يرسمون الطريق ويهيئون له الوسائل فنسلك نحن مسلكنا على طريق ممهد، بوسائل قد أعدها أصحابها ومبتكروها وعرضوها للبيع فاشترينا. وإذا كانت تلك هي حقيقة أمرنا وأمرهم، لم يعد لنا خيار في المعيار الذي نعيش به التقدم والتخلف.
وهنا يجيء السؤال الثاني وهو: ماذا ترانا صانعين بأنفسنا إزاء هذا التخلف عسى أن نتقدم، كما يوجب علينا تاريخنا أن نفعل؛ فنحن بناة حضارات وثقافات ولم يحدث لنا قط أن تخلفنا عن مواقع الريادة، إلا لفي هذا العصر وحضارته؛ فقد كنا عبر تاريخنا إذا ما نضب المعين الحضاري الأصيل وجاءتنا من خارج حدودنا صورة حضارية جديدة لم نلبث طويلا حتى نتشربها بشخصيتنا المستقلة، وسرعان ما نتفوق فيها تفوقا يضعنا في مكان الريادة فيها، إلا هذه المرة. وهذه المرة كانت الحضارة الوافدة مرتكزة على دعائم من العلوم الطبيعية في المقام الأول؛ فللمرة الأولى في التاريخ الحضاري كله تكون ركيزة البناء الحضاري هي العلم الطبيعي؛ فحتى العلوم الرياضية كانت قد وجدت مكانها في الحضارات السابقة. وأما العلم الطبيعي الذي يستخرج من ظواهر الكون قوانينها، فهو هذه المرة ولأول مرة يكون هو القابض على الزمام، وذلك لا ينفي أن يكون في عصر ما من التاريخ قد ظهر أرشميدس وفي عصر آخر قد ظهر جابر بن حيان أو ابن الهيثم؛ فنحن لا نقول عن صفة معينة إنها طابع عصر معين، إلا إذا كانت لها السيادة على ذلك العصر، أما أن تظهر فلتات من أفراد هنا وهناك، فذلك لا يضفي على عصر معين طابعه المميز؛ لأنك قد تقع على عصفور شارد في فصل الشتاء، فلا يبرر لك القول بأن برد الشتاء يتميز بزقزقة العصافير؛ فتلك صفة تميز الربيع، والربيع لا يصنعه عصفور واحد.
ونعيد ما أسلفناه قائلين: إذا نحن اعترفنا بتخلفنا في موكب العصر، فما هو سبيلنا إلى التقدم؟ والجواب موجزا هو أن تغير بعض أوتار القيثارة ليتغير النغم، والقيثارة وأوتارها هنا ترمز إلى حياتنا الثقافية وأقسامها، وهي أقسام سنخصص لها في سلسلة هذه الأحاديث نصيبا وافيا لنبين معالمها وخصائصها، ونكتفي في هذا الحديث بجانب «العلم» - والعلم الطبيعي بصفة خاصة - لأنه ربما كان أخطر موضع من مواضع الخطر التي انتهت بنا إلى ما نحن فيه، لماذا؟ لأن التقصير فيه هو في صميمه تقصير في منهج التفكير الذي يميز هذا العصر مما عداه؛ فقد لا يكون بنا قصور في العلم الطبيعي الجديد من حيث دراسته في معاهدنا وجامعاتنا. لكننا إذ نقوم بهذه الدراسة، فإنما ندرس من النتائج العلمية التي كشف عنها أولئك الآخرون، ندرسها ولكننا لأمر ما لا نتشرب المنهج العلمي الذي أدى بأصحابه إلى كشف ما كشفوه من نتائج؛ فليس هو من قبيل الاستثناءات الشاذة أن تجد من علمائنا الذين نالوا أرفع الدرجات العلمية في فيزياء أو كيمياء أو غيرهما من علوم العصر من يجيد عرض العلم، بل والبحث المبتكر فيه، حتى إذا ما عاد إلى حياته العادية اللاعلمية من تفكير في مشكلاتنا الاجتماعية أو السياسية أو ما يجري مجراها، وجدت أمامك إنسانا آخر، بينه وبين الرؤية العلمية الصحيحة، ما بين عامة الناس وتلك الرؤية، ويكون معنى ذلك أن منهج النظر العلمي مقتصر عنده على أدائه المهني، ولم يتسع معه ليصبح عادة ملازمة له حينما كان. وبالطبع نحن لا نريد بهذا أن نطالب الرجل بأن يمشي في مسالك حياته، وعلى كتفيه أنابيب المعامل ومخابيرها، بل كل ما نعنيه هو أن يكون أساسه الأول في تعليل الظواهر الاجتماعية وما يشاكلها قائما على الرباط السببي الصحيح، كما هي الحال في المجال العلمي المتخصص، فيرد الظاهرة المعينة إلى سببها الصحيح. وإذا هو لم يفعل وجارى العامة في الروابط اللاعلمية التي يصلون بها الأشياء بعضها ببعض وقع مع العامة في حياة الخرافة؛ لأن الفارق الأساسي بين الرؤية العلمية ورؤية التخريف هو في إدراك الرابطة السببية الصحيحة في الحالة الأولى، وعدم إدراكها، بل عدم البحث عنها في الحالة الثانية.
هذا عن العلم الخالص وروح منهجه، ننتقل منه إلى عالم «الفكر» بصفة عامة، فهناك فرق بين النتائج العلمية في ميادينها و«الأفكار». ونضرب لك أمثلة، توضح ما نريده، إننا إذا تحدثنا عن طريقة الحكم كيف تكون؟ أيكون الرأي السياسي فيها هو ما تختاره أغلبية الأصوات في مجموعة الأفراد التي يناط بها اتخاذ الرأي، أم يكون الرأي السياسي إلى شخص واحد هو الحاكم، وحتى لو كان من حقه أن يستشير آخرين؛ فالقرار آخر الأمر هو قراره؟ مثل هذا التساؤل هو من قبيل اختيار «فكرة» دون فكرة أخرى، وليست المسألة في ذلك من قبيل ما يعرض له «العلم» بمنهاجه العلمي. وسأرجئ استخراج الفارق الجوهري بين ما هو «فكرة» وما هو «نتيجة علمية» حتى أسوق لك عدة أمثلة موضحة: وهذا مثل آخر مما أسوقه، هل نترك التجارة بين بلدان العالم حرة، فيستورد من يستورد، ويصدر من يصدر، دون أن تتدخل في الطريق جمارك البلاد استيرادا وتصديرا؟ أو أن الخير في أن تقام حواجز جمركية تفرض الضريبة على السلعة الواردة إذا كان فيها ما ينافس مثيلتها من الإنتاج القومي؟ الأمر هنا مداره «فكرة» وليس مداره علمه وقوانينه. وأسوق مثلا ثالثا: ماذا يكون موقفنا من مجانية التعليم؟ أنعمم المجانية تعميما لا تحده حدود؟ أم نقصره على مرحلة معينة، أو على درجة معينة من درجات القدرة عند الدارسين؟ الجواب هنا قائم على «فكرة» وليس هو من قبيل القانون العلمي. ونسوق مثلا رابعا: ترى هل هو أفضل لنا أن ينشئ الفنان فنه والأديب أدبه، وهو على وعي بمشكلات المجتمع بحيث يجيء الناتج الفني أو الأدبي وفي ثناياه ما يعين المجتمع على اجتياز مشكلاته، أو أن الأفضل هو أن يبدع الفنان أو الأديب ما يبدعه، غير ملتزم إلا شيئا واحدا، وهو أن يجيء الناتج المبدع عالما تسرح فيه نفس المتلقي فترتفع وتسمو بما قد أدركته واستشعرته خلال سرحها، حتى إذا ما عاد ذلك المتلقي إلى دنياه الواقعية ، كان إنسانا أرهف حسا مما كان؟ أو بعبارة أخرى تلوكها الألسن، أيكون الفن والأدب للفن ذاته والأدب ذاته، أم يكونان لتعليم أبناء المجتمع كيف يسلكون؟ مرة أخرى نقول إن الأمر في هذا مرهون ب «فكرة» وليس مرهونا بقانون علمي. ونسوق مثلا خامسا وأخيرا، وهو عن المقارنة بين مجتمع دولي موحد، ومجتمعات وطنية أو قومية فرادى، أيهما تكون له الأولوية في ترتيب الأهداف؟ لقد أقام أبناء هذا العصر هيئة الأمم المتحدة رغبة منهم في أن يجيء ذلك تمهيدا لهدف بعيد هو أن يتحد العالم برغم تعدد شعوبه حتى لا يتعرض الإنسان لويلات الحروب مرة أخرى، فلما أن ذهبت وفود الشعوب المختلفة إلى مقر الهيئة في اجتماعاتها، ذهبت وفي حقائبها نعرات وطنية، فكأنما أرادت خصومة قبل أن تريد وئاما. والسؤال هو: أيخطئ أم يصيب من يعلي النزعة الدولية على النزعة الوطنية، أو العكس؟ فهذا أيضا سؤال يجيء الجواب فيه مؤسسا على «فكرة» وليس مؤسسا على قانون علمي.
فما هو الفرق الأساسي بين ما هو «أفكار» وما هو نتائج «علمية»؟ الفرق هو أنه بينما يجوز الاختلاف بين الناس على الأفكار التي يريدون حولها حياتهم العملية، فلا يجوز ذلك الاختلاف بينهم على ما هو «علم» إننا نقبل أن يقول لنا قائل: رأيي في السياسة متفق مع أن يكون لفئة العمال نصف المقاعد النيابية، وأن يقول لنا آخر خلاف ذلك؛ إذ يقول: إن رأيي هو أن ترفع هذه الفئوية من مجال الانتخاب. فكلا هذين الرجلين يقيم رأيه على «فكرة» في ديمقراطية الحكم كيف تكون. لكننا لا نقبل قول قائل: رأيي هو أن الماء يغلي في درجة حرارة مقدارها كذا، أو أن رأيي هو أن حاصل الجمع لثلاثة وأربعة ليس سبعة. فها هنا لا يوكل الأمر إلى آراء؛ لأنه أساسا لا يندرج في مجال «الأفكار».
الفكرة من الأفكار الأساسية في حياة المجتمع هي بمثابة خطة معينة يسلك على هديها الناس إذا هم اعتنقوها جزءا من دستور حياتهم، ومع ذلك فالفكرة دائما تتخذ لنفسها صورة مجردة غاية التجريد؛ ومن هنا تحدث اختلافات شديدة في طريقة تطبيقها عند معتنقيها؛ فقد تؤمن جماعتان بضرورة «الديمقراطية» في حياتهما السياسية، ومع ذلك تراهما عند التطبيق قد اتجها في فهم الديمقراطية طريقين مختلفين، وذلك لأن طبيعة «الأفكار» تسمع بذلك الاختلاف؛ لأن الفكرة - كما ذكرت - هي بمثابة مخطط يبنى عليه، والمخطط ذو بساطة تكتفي بالأوليات الأساسية، ثم تترك تنوعات التفصيلات مفتوحة لاختيار من يتولى التطبيق.
وعلى ضوء هذا الذي قدمناه نتناول حياتنا «الفكرية» فنقول عنها أول ما نقول: إنها أضعف الجوانب جميعا، فقل ما شئت عن جانب «العلم» من حياتنا أو جانب «الفن» أو جانب «الأدب»؛ فأنت واجد في كل فرع من هذه الفروع ما يستحق الذكر. أما الجانب «الفكري» فهو من الفقر بحيث إذا أردت أن تتعقب ما يصح تسميته ب «الفكر» العربي «في عصرنا هذا فربما عدت من رحلتك خالي الوفاض أو عدت بذلك الوفاض وليس به إلا قليل يسهل عليك أن تهمله دون أن يكون في إهمالك له خيانة.»
ففي رحلتك التي تتعقب فيها «الفكر العربي» في يومنا هذا سيصادفك - بالطبع - كثيرون ممن شغلوا أنفسهم بعرض أفكار للسابقين صادفتهم في دراستهم أو في مطالعاتهم الحرة، وسيصادفك - بالطبع - كثيرون آخرون ممن شغلوا أنفسهم بأفكار قالها أصحابها في هذا البلد أو ذاك من بلاد الغرب. وفي كلتا الحالتين فليس بين يديك إلا تعليق على فكرة سلفية أو تعليق على فكرة غربية. ولا ضير على أي من الرجلين، فمن ذا يلوم رجلا استراحت نفسه للجاحظ - مثلا - فعاش معه حياته؟ ومن ذا يلوم رجلا آخر استطاب العيش مع أولدس هكسلي في عصرنا؟ كلا، لا لوم على أحد في اختيار من يصحبه ويصاحبه في عالم الفكر، لكن ليس لأي من الرجلين حق في أن يدعي بأنه كاتب عربي يعيش حياة عصره؛ لأن مثل هذا الكاتب لا بد له من المشاركة بما يكتبه في رسم خريطة حياتنا الثقافية، فمن ذا الذي يساعدنا على أن ترتسم أمام بصائرنا غاية يحسن بنا أن نتغياها، وأن يعمل في الوقت نفسه على أن تتراءى لنا رؤية محددة ننظر خلالها إلى الطريق الأقوم؟ أقول: من ذا يصنع لنا هذا إلا كاتب عربي في وسعه أن يصوغ أفكارا يراها وأن ينسج تلك الأفكار فيما يجعلها أجزاء ممكنة لحياة موحدة مرغوب فيها؟ إنه إذا وجد فينا من يترك هذا الأثر عند جمهور القراء، كان هو الكاتب العربي والمفكر العربي، وعندئذ إذا أراد غرباء أن يرونا في صورة فكرية، قرءوا لذلك الكاتب، لكن قارن هذا بكاتب آخر بذل جهده في دراسة الجاحظ - مثلا - وقدم إلينا صورة لما وجده عند ذلك العملاق القديم؟ فهو بالطبع مشكور على ما يقدمه؛ لأنه سيساعد المواطن العربي على معايشته لسلف عظيم، فيتكون له ذلك الرباط الوجداني الذي يؤكد وجوده العربي، لكنه مع ذلك الفضل لا يربط ذلك المواطن العربي نفسه بما يغمسه في هموم عصره.
صفحة غير معروفة