وأما الاتجاه الثاني الذي أجدني متجها إليه كلما تأملت موقف العربي في حاضره من علوم عصره فهو اتجاه أتساءل فيه: ترى هل يكون ذلك الشعور بالغربة الذي ينتاب العربي المعاصر، ناشئا كذلك من فجوة أخرى تفصل ماضيه عن حاضره، وهي فجوة أعني بها الفرق البعيد بين ما ينتج للعلماء من تحليل المادة الكونية إلى ذرات، والذرات إلى كهارب، والكهارب إلى صنوف منها مختلفة أظنها أربعة في عددها؛ فمثل هذا التحليل الجديد لمادة الكون قد أوحى بعدة أفكار، منها: أن الفاصل بين ما هو «مادي» وما هو «لا مادي» أوشك أن يزول؛ فها هي ذي قطعة الخشب أو الحديد، قد رددناها آخر الأمر إلى «طاقة» كهربية، ثم يضاف إلى ذلك ما هو أدعى إلى العجب، وهو أن تلك الكهارب التي تتآلف منها الذرة لا تنقاد في نشاطها إلى قوانين حاسمة محكمة، بل هي تنشط في كثير من «الحرية» فلا يتمكن العلم من التنبؤ في لحظة معينة، كيف تنشط في اللحظة التالية، فإذا أراد العلم إزاء ذلك أن يستخرج للذرة وكهاربها قوانينها، لجأ إلى منهج إحصائي لا حتمية في نتائجه. وفوق هذا وذاك، قد يتفرع عن الموقف العلمي الراهن، نتيجة نراها بالفعل عند نفر من مفكري هذا العصر وفلاسفته، وهي أن الكون «تعددي» يتعذر على الباحث فيه أن يجد «الواحدية» التي تجعله كونا واحدا موحدا فيما يشبه الكيان العضوي الفرد، خصوصا إذا تذكرنا أن «الكون» كما يراه علم اليوم، «يمتد» في كل اتجاه كأنه كتلة غازية تنتشر وتزداد اتساعا ثم تظل تنتشر وتتسع آفاقها، وإذا كان ذلك كذلك، فالكون في مجموعه اليوم لم يكن على صورته وحجمه هذا بالأمس، لا، ولن يكون غدا. ولنا - بالطبع - أن نضيف نتائج فرعية كثيرة أخرى مما انتهى إليه علم هذا العصر، كالهندسة الوراثية التي تزداد قوة كل يوم، ومن شأنها أن يزداد الإنسان قدرة على التغيير والتبديل في طبائع الكائنات الحية، بما فيها الإنسان نفسه، وهذا مثل واحد من أمثلة كثيرة.
وحيال هذه الممارسات العلمية العصرية بكل ما ذكرناه وما لم نذكره من نتائج، أراني مسائلا نفسي، كلما تأملت الوقفة الرافضة التي يصطنعها العربي الجديد، قائلا: أتكون علة موقفه هذا تلك الهوة السحيقة بين رؤية هذا العصر، وبين ماضيه الذي أورثه رؤية أخرى؟ قد يكون ذلك. وبهذا - إذا صح - يصبح الرفض العربي للوقفة العلمية ذات الطراز الذي يميز عصرنا، مؤسسا - في أعماقه - على عاملين؛ أولهما هو أن العربي قد وقف بإبداعه الفكري عند مرحلة التوليد الذي يستنبط رموزا من رموز، والرموز قد تكون مفردات اللغة ومركباتها، وقد تكون رياضية، ولم يدخل مع الغرب مرحلته العلمية الحديثة التي تتجه نحو الكون وكائناته وظواهره، بالإضافة إلى الاتجاه الأقدم نحو الكتب الموروثة عن السلف، والنسج على منوالها. وأما العامل الثاني فهو ما قد تطور إليه العلم الحديث نفسه إلى مرحلة تقنية تقوم على أجهزة وتنتج أجهزة، مما أدى إلى مزيد ومزيد ثم مزيد من تحليلات للكون وكائناته، في دقة أوصلت الإنسان إلى علم أوسع وأعمق لطبيعة الكون ومادته، فازداد بعلمه هذا قدرة لم يكن يتصورها بشر من قبل، كما أوصلته - بناء على المعرفة الجديدة - إلى أفكار واعتقادات تصطدم في - في ظاهرها على الأقل - مع وجهة النظر في الموروث العربي.
ولسنا نريد تبسيط الأمور المعقدة، لكننا مع ذلك إذا ما قلبنا النظر في العاملين المذكورين اللذين رأيناهما - على سبيل الظن - علة إحجامنا عن الأخذ بجوهر العصر لنشارك فيه مشاركة سيد مع سيد، وجدنا الخروج من المأزق الحضاري في حدود المستطاع، دون أن نلجأ إلى اعتساف في تصورنا لحقيقة الأمر الواقع، فأما عن العامل الأول، الذي يتلخص في أن العربي يسير بفكره على منهج التوليد الاستنباط وحده كما كانت الحال مع السلف ب «صفة عامة» وبرغم أنه يحصل علوم العصر بمناهجها الجديدة، إلا أنه يحصر تلك المناهج الجديدة في مجالها الأكاديمي أو المهني وحده، ولا يجاوز بها تلك الحدود ليجعلها عمادا من عمد منظوره الفكري بصفة عامة، فالتغلب على هذا القصور مرهون بضرب جديد من التعليم في مدارسنا وجامعاتنا ننقل به إلى الدارس مادة علمية ومنهجها؛ بحيث يتشرب مع العلم طريقته، فحتى لو أنسته شواغل الحياة العملية بعد ذلك، مادة الموضوع العلمي الذي درسه، بقي له منهج النظر، يستخدمه في شتى مجالات الحياة التي تتطلب فكرا منهجيا يتلاءم مع جو العصر.
وأما عن العامل الثاني، وهو أخطر شأنا، وأعني به تلك الفجوة بين ما قد انتهى إليه العلم الجديد من تحليل للمادة، ومن قدرة للإنسان على التغيير والتبديل في الكائنات الحية، ومن رؤية عامة ترى الكون مقطوع الأوصال متعدد الأجزاء، مما قد ينفي عنه التوحد، الفجوة بين هذا كله، وبين ما يظن العربي أنه رؤية عربية أصيلة، ترى في الكون واحدية، وثباتا ودواما، وتنكر على الإنسان حقه في العبث بالكائنات كما خلقها خالقها، فذلك كله يمكن إمعان النظر فيه، فنراه غير ما ظنه العربي حين قارن بين حاضر الدنيا وماضيه، فلو أن علماءنا القدماء المبدعين الذين - بحكم اهتمامات عصرهم - صبوا قدراتهم البحثية على موضوعات أخرى غير الطبيعة وظواهرها، كاللغة، والفقه، وتحقيق الحديث، وغيرها، أقول لو أن هؤلاء العلماء القدامى المبدعين قد عاشوا في عصرنا هذا، باهتمامات العصر المتجهة نحو مزيد من العلم بالكون وكائناته، لكان الأرجح أن نراهم في الطليعة مع غيرهم، كشفا لطبائع الأشياء وصوغا لقوانينها، وتحليلا للمادة إلى الذرة بمفهومها الجديد وما دون الذرة، وهو تجرؤ للمادة في معامل العلم، لا يؤدي إلى تمزق في الكون يبعده عن واحديته؛ فليس في الدين أمر يقيد الإنسان في تدبره لخلق الله عز من خالق.
إنها طريقة التربية، وطريقة التعليم، وطريقة الإعلام في الوطن العربي، لو استنارت فأنارت، لأضحى العربي الجديد عربيا حقا وجديدا حقا، وفي شخصه يتواصل حاضره وماضيه.
جسور عبرناها
كنا في حديث مضى نصور القلقلة الهائلة التي تجتازها المرحلة التاريخية التي يجتازها العالم كله اليوم، وذلك لأن هذا العالم كان قد استقرت بحياته أوضاع حضارية وثقافية معينة، حتى بلغ استقراره حد التجمد والجمود إبان القرن الماضي (التاسع عشر) في أوروبا بصفة خاصة ؛ لأن أمريكا لم تكن بعد قد دخلت مع أوروبا على مسرح الأحداث العالمية، بل كانت طوال الجزء الأكبر من القرن الماضي، ما زالت تأخذ أفكارها من أوروبا، قبل أن تقف على قدميها مستقلة بفكرها الجديد، الذي لاءمت بينه وبين حياتها العملية والعلمية الجديدة. وأما سائر أجزاء الدنيا القديمة - في آسيا وأفريقيا - فكانت إما غير مسموع بها، وإما ألحقت توابع للدول الأوروبية، فإذا نحن قلنا إن صور الحياة في أوروبا كانت قد بلغت من الثبات على قواعد معينة محددة حد التجمد والجمود، فكأننا قد انصرفنا بالحكم نفسه إلى معظم أقطار العالم. وأحسب أننا لم ننس بعد ما كان قد شاع عن التقاليد كيف أطبقت بقبضتها القوية على تفصيلات الحياة العملية في إنجلترا إبان ما يطلق عليه اسم «العصر الفيكتوري» «نسبة إلى الملكة فيكتوريا» حتى لقد كان كل حركة تتحرك بها ذراع أو قدم في موقف اجتماعي معين «منضبطة بقوالب تفرضها» التقاليد. ولما كان مما يستعصي على حيوية الحياة الإنسانية أن تنخرط في قوالب من جديد على هذا النحو الذي فرضته التقاليد، فقد شاع النفاق الاجتماعي في ذلك العصر نفسه، فيظهر الإنسان سلوكا منضبطا في صورته الخارجية ويبطن في الخفاء سلوكا آخر يحياه خلف الستائر.
لكن القرن الماضي نفسه، الذي عاش أبناؤه حياة متجمدة الصورة، هو نفسه القرن الذي أفرزت فيه العبقريات أفكارا جديدة في كل ميدان، كان من شأنها أن تحدث انقلابا جذريا في معايير الحياة الإنسانية وأشكالها. إلا أنه لم يكن من حظ القرن الماضي، الذي أفرزت فيه تلك الأفكار الضخمة أن يشهد تحولها من نظر إلى تطبيق. وأقل ما يقال في تفسير ذلك هو أنها سنة الحياة كما قد شهدها التاريخ الفكري؛ فالفكرة المعينة تولد في زمن لكنها تستغرق فترة تطول حينا وتقصر حينا، قبل أن تتقطر قطرة قطرة من ذروتها العليا لتصل إلى سفوح الجماهير، في حياتهم العملية. وإذا كانت الفكرة الانقلابية العظيمة تمس سياسة الحكم، كان الأغلب ألا تتحول إلى تطبيق إلا بعد حروب وثورات تنشب في سبيل تحقيقها، وذلك هو ما حدث فعلا في بعض ما ترتب على الأفكار المحورية التي ولدت في القرن الماضي، وعلى رأسها جميعا فكرة نقلت محور الرؤية إلى الكون في مجموعه، وإلى كل كائن على حدة في ذلك الكون؛ فبعد أن كان المحور هو أن ينظر إلى الكون وكائناته نظرة سكونية؛ أي إن الشيء المعين هو بطبيعته الأولية ساكن إلى أن يحركه عامل خارجي يأتيه من خارج كيانه؛ لأنه هو بذاته قاصر عن أن يحرك نفسه بنفسه.
وذلك هو مبدأ القصور الذاتي الذي أقام عليه «نيوتن» بناءه النظري للكون وأصبح هو إطار الفكر الأوروبي - والعالمي - خلال الفترة الممتدة من القرن السابع عشر إلى التاسع عشر، أقول إنه بعد أن كان محور الرؤية العامة في العلم وفي الثقافة سكونيا على الوجه الذي شرحناه، جاءت الفكرة الدينامية الجديدة منذ أوائل القرن التاسع عشر، على يدي هيجل أولا، من حيث أساسها الفلسفي، ثم على أيدي من اتجهوا إلى فكرة «التطور» في صورها المختلفة بعد ذلك. ولا يدري هذا الكاتب على نحو يطمئن إليه، إذا كانت الحركة الرومانسية الواسعة في الأدب الأوربي في الثلث الأول من القرن الماضي والتي كانت بدورها صدى مباشرا للثورة الفرنسية التي لم يكن قد مضى على شبوبها أكثر من ربع قرن، أقول إن هذا الكاتب لا يعرف على دقة يطمئن إليها، إذا كانت تلك الحركة الرومانسية في الأدب، نتاجا في دنيا الأدب يضاف إلى هيجل في دنيا الفلسفة في ولادة الفكرة الدينامية الجديدة التي كان لها صداها في أفكار القرن الماضي؛ ماركس في نهج المادية الجدلية عند تفسير التاريخ، و«دارون» في نظرية البيولوجية عن أصل الأنواع وطريقة تطورها، وإن يكن «دارون» أقرب إلى فكرة القصور الذاتي في تفسيره؛ إذ هو يجعل لعوامل البيئة الطبيعية كل الأثر في انتخاب ما يبقى من الأنواع الأصلح للبقاء وفناء الأنواع التي لا تتكيف لبيئتها، ثم «فرويد» في نظرته الجديدة لحقيقة الإنسان ودوافعه، بل نضيف إلى هؤلاء «العلماء» فلاسفة «الإرادة» «شوبنهاور» وإرادة الحياة و «نيتشه» وظهور الإنسان الأعلى، وكل هذه الأسماء ظهرت متقاربة كالكوكبة الواحدة فيما حول منتصف القرن الماضي إلى أن جاء في أواخر القرن «أينشتين» كالمنارة تشق بضوئها سبيل العلم الجديد فيما بعد؛ أي في هذا القرن العشرين الذي نحيا اليوم في نصفه الثاني. أفكار نظرية كبرى ولدت في القرن الماضي، كما رأيت سارت جنبا إلى جنب مع تجمد التقاليد في الحياة العملية بما في ذلك الحياة السياسية التي شهدت حركة استعمارية واسعة النطاق، مدت شباكها لتلف شعوبا كثيرة في أفريقيا وآسيا، وكانت مصر ومعظم بلدان ما قد أصبح يسمى بالشرق الأوسط، بين الأقطار التي شملتها مصائد المستعمرين، فاحتاج الأمر إلى حربين عالميتين وإلى ثورات قومية لتحطم القوالب الحديدية التي انصبت فيها الحياة العملية بما فيها الجانب السياسي، بحيث تتاح الفرصة لولادة عالم جديد تتطابق فيه جدة الحياة العملية والسياسية مع الأفكار النظرية الجديدة، التي كان القرن التاسع عشر قد تمخض عنها، والتي بقيت في صياغاتها النظرية تنتظر هذا القرن العشرين ليتحول بها إلى تطبيق يجريها في مسالك الحياة حياة.
وقد أسلفنا في حديثنا السابق بعض الأمثلة لما تغيرت به حياة الناس عقب الحرب العالمية الثانية. وحسبنا الآن مثل واحد نعيد ذكره لنتناوله بتفصيل يكشف أمامنا جوانب حيوية في موقف الأمة العربية اليوم بين الثقافتين؛ ثقافتها الموروثة، وثقافة الغرب، وهذا المثل الواحد الذي نعيد الحديث فيه هو ما قد يسمى أحيانا بثورة الألوان، بمعنى أنه بعد أن كانت «الثقافة» تقاس ارتفاعا وانخفاضا بثقافة «الرجل الأبيض» أي إنها كانت تقاس بثقافة أوروبا حتى الولايات المتحدة الأمريكية نفسها، إلى ما بعد منتصف القرن الماضي بقليل كانت تخضع لهذا المقياس نفسه، إلى أن أطلق «أمرسن» صيحته المشهورة في أواسط القرن، بضرورة أن تستقل الولايات الأمريكية بثقافة تميزها. وأما شعوبنا نحن في أفريقيا وآسيا فقد كانت عليها أن تنتظر حربين عالميتين وعدة ثورات وطنية وإقليمية قبل أن يطلق سراحها الثقافي، فتحيا ثقافتها الخاصة بها، دون أن يعيرها أحد ببعدها عن ثقافة الغرب، فرأيناها بعد الحرب العالمية الثانية وقد أخذت تستقل سياسيا من ربقة مستعمريها شعبا بعد شعب قد أخذت كذلك تحيي أصول ثقافاتها الخاصة.
صفحة غير معروفة