كان السؤال الذي طرحناه في هذا الصدد يسأل لماذا يباح للباحث العلمي أن يغير فروضه - التي هي بمثابة نقاط البدء في منهج البحث العلمي - إذا ثبت له أنها فروض لا تؤدي إلى النتائج المطلوبة، ولا يباح مثل ذلك التغيير بالنسبة إلى مبادئ الأخلاق إذا ثبت أنها معوقات في طريق السير الناجح المثمر؟ ولقد قدمنا عن هذا السؤال جوابنا فوضحنا الفوارق بين الحالتين.
فإذا كان هذا الكاتب العربي يبحث في حقيقة موقفه بين الثقافتين فها هو ذا يبرز أين يتفق وأين يختلف. لقد أسلفنا في هذا الحديث وفي الحديث الذي سبقه أساسا علميا لحقيقة الحياة الإنسانية، وهو أساس يبين لنا الوحدات الأولية البسيطة التي تبنى عليها تلك الحياة وكل وحدة منها مؤلفة من ثلاث حلقات؛ معرفة بالواقع ومضمون مختلط العناصر مخبوء في بواطن الإنسان ثم سلوك عملي قائم على تلك المعرفة الأولى بعد أن شكلتها ولونتها العناصر الباطنية، فأين في هذه الحلقات الثلاث تقع مبادئ الأخلاق؟ الجواب عند أعلام من مفكري الغرب - فيما نتصور - هو أنها تقع في الحلقة المعرفية الواقعية الأولى ولذلك فهي قابلة للتغيير كلما تغيرت تلك المعرفة، وأما الجواب عند هذا الكاتب العربي فهو أن تلك المبادئ مجموعتان؛ مجموعة منها جاءت مع الوحي الديني فتكون بهذا جزءا من العقيدة؛ وبالتالي فموقعها هو الحلقة النفسية الثانية، ومجموعة أخرى ولدتها خبرة الإنسان في حياته العملية، وإذن فمصدرها معرفة بشرية، وبذلك يكون مكانها هو الحلقة المعرفية الأولى، وبهذه النظرة الحذرة يستطيع صاحبنا العربي أن يجمع بين الثقافتين في وقفة واحدة فيغير من هيكل حياته ما يمكن أن يتغير لحاقا بموكب العصر ويصون الثوابت لينجو بحياته من التحلل والدمار.
العروبة موقف
1
لم يكد هذا الكاتب يجاوز عامه العشرين، حتى انغمس إلى قمة رأسه في بحر الحياة الثقافية كما يصطحب موجها من حوله. وكان من أبرز القضايا التي شغلت الأقلام في مصر عندئذ، انتماء المصري لأي عهد من تاريخه الطويل يعود؟ وفي تلك المعركة القلمية الساخنة، كان الصوت العالي الذي يملأ الأسماع هو القائلين بوجوب انتماء المصري من حيث الأساس، إلى العصر الفرعوني؛ ففضلا عن كون هذا الانتماء حقيقة تاريخية لا يجوز لها أن توضع بين الناس موضع «الرأي» الذي يقبله فريق ويرفضه فريق، فهو انتماء فيه من المجد ما يرتفع به عن مضمار التنافس مع سواه؛ فمن ذا الذي «يبيع سمسما مقشورا بسمسم غير مقشور»؟ «كما قال ابن المقفع» على أن أولئك الأعلام الذين دعوا يومئذ إلى الانتماء الفرعوني للمصري، لم يريدوا - بالطبع - لتلك الدعوة المصرية أن تشمل الجانب الديني.
فهل كان في وسع ذلك الشاب أن يخرج من المعمعة بشيء غير الذي جرت به أقدر الأقلام؟ وهكذا كان، وهكذا دامت به الحال فترة من الزمن لم تقل عن عقدين، لكنه خلال تلك الفترة كان يتحول من مرحلة الانفعال إلى مرحلة العقل، فلم يعد أمره مقصورا على أن يتلقى ما يكتبه له سواه، بل أضاف إلى ذلك جانبا آخر يشارك به في الرأي يكتبه لمن يقرأ، وهو تحول من شأنه أن يصطحب شعورا بالتبعة العقلية يبثه في ضمير الكاتب؛ فأنت إذ تقرأ ما كتبه آخرون، فقد تقبل في صمت وقد ترفض في صمت فلا يؤرق ضميرك شيء. أما إذا كتبت ليقرأ آخرون، فها هنا تحس عند كل عبارة تخطها وازع الضمير يراجعك ويحاسبك، فتأخذ في نوع من إمعان فكرك فيما تريد أن تقدمه لقارئك، وتتساءل عند كل كلمة: ترى أهي الكلمة التي تؤتمن على حمل المعنى المراد نقله إلى الناس؟ وحصيلة هذه النقلة من موقف قارئ غير مسئول عما قرأ، إلى موقف كاتب مسئول أمام ضميره عن صدق ما يكتبه ودقة معناه، أقول إن حصيلة ذلك هي إطالة النظر في الفكرة قبل عرضها، لا سيما إذا كان لها من الخطورة ما لفكرة «الانتماء» من خطورة.
أصحيح ما دعا إليه أعلامنا في مصر خلال العشرينات - ولا أقول «العشرينيات» - وما بعدها بقليل، من أن مسألة الانتماء المصري هي مسألة تضع المصري بين ضدين، فهو إما إلى هذا الضد منهما وإما إلى ذلك؛ أي إنه إما يرتد بانتمائه إلى أصوله الفرعونية القديمة وإما أن يقف من ماضيه عند ولادة تاريخه العربي؟ اللهم لا ؛ فذلك لا يختلف كثيرا عن شجرة تسأل نفسها: أترجع أصولها إلى الجذور أم إلى الجذع والفروع؟ ومنذ تبين لهذا الكاتب أن الأمر هو من الوضوح بحيث لا يحتمل مجرد السؤال، لم يعد يساوره شك. على أن ذلك اليقين القاطع، لا ينفي أن يتطلب موضوع الانتماء تحليلات كثيرة توضح ما غمض منه. وهكذا فعلت في مناسبات سابقة، وهكذا أفعل الآن؛ فلقد قرأت منذ قريب لأكثر من كاتب يعيدون النغمة القديمة على أوتار جديدة، كأن يقولوا إننا إذا تحدثنا عن «التراث» فلا يكون المقصود هو ثقافة الصحراء، بل المقصود هو ما أبدعه الوادي المزروع منذ فجر التاريخ. والذين يقولون ذلك فإنما يقولونه بلغة الصحراء، يقولونه وكأن الأمر أمر اختيار بين ضدين؛ فإما هذا الضد وإما ذلك الضد، ولا يرون الحقيقة الجغرافية الناصعة وهي أن الوطن العربي الكبير إنما هو صحراء واحدة فسيحة الأرجاء تمتد من المحيط إلى الخليج - كما نقول - وتتخللها «واحات» بعضها كبير وبعضها صغير، ووادي النيل هو واحة كبرى في صحراء الوطن العربي، فإذا كانت حياة الزراعة فيه قد غرست في أهله نزعات تتفق وحياة المزارع، فكذلك الصحراء المحيطة بهم قد تركت بدورها نزعات بدوية؛ ومن هنا وجب الحذر عند التعميم؛ فأخلاق المصري نسيج متألف الخيوط بين زراعة وبداوة. وإذا لم يكن الأمر كذلك لما رأينا الفلاح المصري في القرى يستمع أحسن ما يستمع إليه في أوقات فراغه «قبل عصر التليفزيون» إلى قصة عنترة وقصة أبي زيد الهلالي وكلتاهما تعكس فروسية البدو. إن الوطن العربي هو ذلك الامتداد الصحراوي العظيم، الذي زركشت حوافيه وأواسطه ببقاع خضراء تكبر هنا وتصغر هناك، وليست مصر استثناء يشذ عن هذه الصورة. وإذا أفلتت منا هذه الحقيقة الأساسية أفلت منا بالتالي مصباح كاشف ينير لنا الطريق إلى فهم صحيح لجوهر «الثقافة العربية».
إن الشبه جد قريب بين الروائي الموهوب في اهتدائه إلى المحور المركزي الذي تدور حوله الشخصية التي يريد تصويرها في روايته وبين رجل الثقافة في بحثه عن المحور الأساسي الذي تدور حوله ثقافة شعب معين ؛ ففي كلتا الحالتين يجد الباحث أمامه تفصيلات لا حصر لها؛ فحياة الفرد الواحد وأكثر منها حياة الشعب الواحد، أو الأمة الواحدة، خضم هائل من الأحداث التي قد تبدو للوهلة الأولى متفرقات مبعثرة لا سبيل إلى جمعها في كيان عضوي واحد. إلا أن الأديب الروائي الموهوب أو مؤرخ الثقافات المتمرس يستطيع أن يخترق تلك الكثرة من أحداث الحياة العملية وأوضاعها ليصل عند القاع إلى ذلك الينبوع المستتر، الذي منه انبعثت تلك الكثرة من أحداث الحياة. وإذا وقع الأديب الروائي، أو مؤرخ الثقافة المعينة، على ذلك الينبوع الخبيء كان بمثابة من وقع على المفتاح الذي تنفتح به الأبواب المغلقة، وعندئذ يظهر الفرد المراد تصويره في رواية الأديب، ويظهر جوهر الحياة الثقافية التي يراد تصورها وتصويرها.
فإذا صح ما زعمناه من «صحراوية» في أساس الوطن العربي بأكمله - ممتدا من الخليج العربي إلى المحيط الأطلسي - كان لنا بذلك «مفتاح» الفهم لما نحن بصدده، وهو «الثقافة العربية» لا فرق في ذلك بين قديمها وحديثها. وهذا يتضمن - بالطبع - اعترافا مسبقا منا، بأن هنالك واقعا حقيقيا اسمه «الثقافة العربية» وأن التاريخ قد امتد بهذا الواقع الحقيقي منذ العصر الفلاني في الماضي وإلى يومنا هذا. أما إذا زعم لنا زاعم بأن مثل هذا الشيء لا وجود له في التاريخ، أو أنه كان موجودا في الماضي ولم يعد له اليوم وجود، فإنه يصبح من العبث أن نمضي مع مثل هذا الزاعم المنكر في الحديث.
الغرض الذي نبدأ به حديثنا - إذن - هو أن شيئا اسمه «الثقافة العربية وثقافة مصر جزء منها» كان موجودا وما زال موجودا، وكل ما يطلب منا إزاءه هو أن نقدم «المفتاح» الذي نفتح به مغاليقه لنراه رؤية العين، والمفتاح الذي يقدمه كاتب هذه السطور هو «صحراوية» الثقافة العربية. وأول خطوة نخطوها بعد هذه البداية المقترحة هي أن نأخذ في البحث عما توحيه الصحراء لساكنها عن الكون وعن الإنسان وحياته وعما وراء الكون والإنسان. إذا أحسسنا أن التفسير لا يتم إلا إذا آمنا بأن هنالك «وراء» غير منظور فهل نقول قولا عجبا إذا قلنا إن أول ما توحي به الصحراء لساكنيها هو فكرة اللانهاية؟ إن بصر الرائي أينما توجه، وجد امتدادا لا يعرف أين ينتهي، ولا كيف ينتهي، فإذا ما أقبل الليل واتجه البصر إلى السماء شهد أرتال النجوم التي تفوق العد والإحصاء، فبأي المعاني تنطبع نفس الصحراوي وقلبه وعقله، وهو يشهد تلك اللامتناهيات مكانا وزمانا يوما بعد يوم وعاما بعد عام، إذا هي لم تنطبع بفكرة اللانهائي الذي يسرح فيه الخيال، ويغوص في أغواره الفكر المتأمل ليبدع ذلك الخيال وهذا الفكر ما يبدعانه من معان يسوقها المفكر ويصوغها الشاعر ويهتدي بها الفنان؟
صفحة غير معروفة