ليس من الصعب أن يستنتج المرء أن قضية البترول هي القضية الأساسية والحاسمة في تحديد موقف أمريكا من العرب، وموقف العرب من أمريكا، طوال الأعوام الثلاثين الماضية. صحيح أن هناك قضايا أخرى هامة تثيرها العلاقة بين هذين الطرفين، ولكن تلك القضايا لا تكتسب أهميتها إلا بقدر تأثيرها - إيجابا أو سلبا - في القضية الرئيسية، وهي البترول.
وربما اعتقد المرء أن هذه القضية لا تؤثر إلا في علاقة أمريكا بعدد من الدول العربية فقط، هي الدول البترولية، ولكن الواقع أن الممارسات السياسية التي تقوم بها أمريكا مع الدول غير البترولية تستهدف بدورها هذه الغاية نفسها؛ فموقف أمريكا من مصر، ومن اليمن الشمالي، على سبيل المثال، يتقرر إلى حد بعيد على أساس مصالحها البترولية، أي أنها حين ترسم سياستها إزاء هذين البلدين غير البتروليين تضع في ذهنها أساسا تأثير هذه السياسة في مصالحها البترولية. وأستطيع أن أقول، بوجه عام، أنه منذ اللحظة التي تبين فيها وجود البترول بكميات هائلة في العالم العربي، سواء من حيث ما يستخرج منه أو ما يختزن في جوف أراضيه، ومنذ اللحظة التي اتضح فيها مدى اعتماد الاقتصاد الغربي كله على هذه المادة الحيوية، تحددت لأمريكا سياسة معينة في المنطقة، وأصبحت هذه السياسة جزءا لا يتجزأ من الاستراتيجية الأمريكية العامة في العالم المعاصر.
والآن، ما هي الأهداف الرئيسية التي تسعى إليها أمريكا في سياستها البترولية إزاء العرب؟ «الهدف الأول هو الربح» وهذا هو الهدف المباشر، والتقليدي، في كل مرة تعثر فيها دولة متقدمة تكنولوجيا وعسكريا على مادة خام ذات أهمية اقتصادية في أراضي دولة أقل منها تقدما. فالشركات الأمريكية تجني أرباحا طائلة من كافة عمليات النقل والتأمين والتكرير والبيع إلخ، هذه قصة معروفة، ولكنها تظل حقيقة ذات تأثير دائم؛ إذ إن الحرص على استمرار الأرباح وزيادتها يشكل عنصرا أساسيا من العناصر التي تأخذه أمريكا في اعتبارها عندما تحدد سياستها إزاء أية دولة عربية، أو أية حركة سياسية أو اجتماعية تظهر في هذه المنطقة من العالم. «والهدف الثاني هو استمرار التدفق» وقد ظهرت أهمية هذا الهدف بالذات بعد الحظر البترولي المؤقت الذي مارسه العرب خلال حرب أكتوبر 1973. ومنذ ذلك الحين أصبحت أمريكا أكثر وعيا بأهمية هذا العامل الذي يمكن أن يشكل أداة ضغط رهيبة يمارسها العرب ضد المصالح الغربية بوجه عام. ومن هنا فقد حرصت على أن تفعل كل ما من شأنه ألا يلجأ العرب إلى استخدام هذا السلاح مرة أخرى، ولم تتردد حتى في اللجوء إلى التهديد باحتلال منابع البترول إذا اقتضى الأمر ذلك. «أما الهدف الثالث في سياسة أمريكا البترولية فهو أن تحول - بكل الطرق الممكنة - دون أن يصبح البترول العربي أداة مضادة للمصالح الأمريكية» مثال ذلك أن البترول لا ينبغي أن يؤدي إلى أن يصبح العرب قوة اقتصادية قائمة بذاتها، تعتمد على نفسها وتنمو بصورة مستقلة عن أطماع الدول الكبرى، وإذن فلا بد من رسم السياسة التي تمنع العرب من انتهاز الفرصة البترولية المتاحة لهم (لفترة زمنية قصيرة بالنسبة إلى عمر الشعوب) من أجل إحداث نهضة حقيقية في بلادهم. والوجه الآخر للعملة، في هذه السياسة، هو عمل كل ما من شأنه تحويل تلك الفرصة البترولية إلى مصدر نفع للغرب بوجه عام، وأمريكا بوجه خاص، بدلا من أن تنفع أصحابها الأصليين.
هذه باختصار، هي أهم الأهداف التي تسعى أمريكا إلى تحقيقها في العالم العربي فيما يتعلق بتلك القضية الجوهرية، قضية البترول. ولما كان الكلام عن هذه الأهداف سيأتي، بشيء من التفصيل، في آخر فصول هذه الدراسة، فإننا سنكتفي الآن بذكر هذه الأهداف دون تعليق عليها، وحسبنا أن نشير إلى مسألتين جوهريتين تتعلقان بالجانب السياسي لقضية البترول:
المسألة الأولى:
هي أن التهديدات الأمريكية بالاحتلال لا تعدو أن تكون عملية تخويف مقصودة. فهي تظهر دائما في مناسبات معينة، وتسرب بطريقة مدروسة، وتخدم أغراضا محددة بعناية ولكن تنفيذ هذه التهديدات، في ظروف العالم الحالية، أمر يصل في صعوبته إلى حد يقرب من الاستحالة. ففي وقت الخطر، ليس أسهل من قيام عمليات تخريب واسعة النطاق تعطل إنتاج الآبار وقدرة الأنابيب على النقل لمدد طويلة، وهو أمر تعرفه أمريكا جيدا، ولا تستطيع منعه لو تطورت الأمور إلى الحد الذي يستدعي حدوثه. ومن جهة أخرى فإن التوازن الدولي الدقيق، وخاصة بعد سياسة الوفاق، يمنع أمريكا من ممارسة هذه السياسة العدوانية في منطقة قريبة كل القرب من حدود خصمها الرئيسي، وهو الاتحاد السوفيتي؛ فقد تجاوز العالم إلى غير رجعة تلك المرحلة التي كانت فيها الدول الكبرى تستخدم السلاح دون رادع من أجل أي بلد تطمع في موارده الاقتصادية، بل أصبحت كل دولة تعمل حسابا لعشرات العوامل قبل أن تقدم على أبسط خطوة عسكرية. ولو كنا في القرن التاسع عشر، لاحتلت أمريكا منابع البترول في غمضة عين دون أن يوقفها أحد، أما في ظروف العالم الراهنة فإن التهور العسكري لم يعد ممكنا. وأوضح دليل على ذلك هو موقف أمريكا من أحداث إيران؛ فلو كانت فكرة الاحتلال المباشر قابلة للتنفيذ لكانت إيران أحق من غيرها بذلك، ولكن التوازنات الدولية الدقيقة شلت حركة أمريكا عن التدخل، وقدمت بذلك إلى الثورة الإيرانية خدمة كبرى.
أما المسألة الثانية:
فهي أن البترول، مثلما أنه هو بيت الداء، فهو أيضا أصل الدواء. لقد كان البترول هو نقطة البداية في الاهتمام الأمريكي المكثف بالمنطقة العربية، منذ فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وكان بالتالي هو العامل الأساسي الذي يكمن وراء كل التدخلات الأمريكية في المنطقة، وكل السياسات التي تهدف في النهاية إلى أن تضمن دوران بلدان المنطقة في حلقة النفوذ الأمريكي. فإذا شاءت شعوب المنطقة أن تتحرر حقيقة من هذا النفوذ الأمريكي، وأن تسير في طريقها المستقل، فلا بد أن يكون البترول أحد المفاتيح الرئيسية التي تستخدمها من أجل الخروج من سجن التبعية والانقياد.
وحين أقول ذلك، فأنا لا أعني بالضرورة أن تقوم الدول العربية باستفزاز أمريكا، أو الغرب، بتروليا، إلى الحد الذي يدفع أمريكا إلى المغامرة، اعتمادا على العامل الذي أشرنا إليه منذ قليل، وهو أن موازين القوى لا تسمح الآن بالتدخل العسكري السافر؛ فمثل هذا التهور المتطرف ليس من مصلحة أحد. وكل ما أعنيه هو أن العرب يجب أن يقفوا بحزم في وجه أية تدخلات سياسية أمريكية تتم بحجة تأمين الموارد البترولية التي لا يستغني عنها الاقتصاد الغربي.
إنني أذهب إلى حد القول بأن المصالح الأمريكية والغربية، في الميدان البترولي العربي، لا يمكن أن تتعرض لتهديد حقيقي، حتى في أسوأ الظروف (من وجهة النظر الأمريكية)؛ ذلك لأن أي نظام حكم عربي، مهما كان تطرفه، لن يقطع البترول نهائيا عن الغرب. وحتى لو تحقق تأميم كامل، في جميع المراحل، للصناعة البترولية، فلا ينبغي أن يكون هذا ذريعة لتدخل أمريكا بحجة تأمين موارد البترول؛ ذلك لأن التضاد بين التأمين والتأميم هو تضاد زائف، مصطنع، لسبب بسيط هو أن البترول سلعة لا بد أن تباع، ولأن خصوم أمريكا في الكتلة الشرقية لديهم ما يكفيهم وزيادة. فأين يذهب البترول في هذه الحالة، وهل يحتمل أن توقف الدول العربية، مهما كان تطرفها، نموها الداخلي من أجل معاكسة أمريكا؟ هذه كلها افتراضات خيالية، ولكن الشيء الحقيقي هو أن ما يتعرض للخطر في هذه الحالة ليس الإمداد بالبترول، وإنما هو شروط معينة للتعامل في هذه السلعة الحيوية؛ فالخطر الذي تخشاه أمريكا، هو رفض الاستغلال والسيطرة واستمرار الإنتاج بالمعدلات التي تحتاج إليها السوق الغربية، لا وفقا لاحتياجات البلد المنتج من الدخل البترولي. ولو قبلت أمريكا التعامل مع الحكومات المنتجة - مهما كانت درجة تطرفها - بشروط متكافئة، لما أصبح هناك شيء مهدد. ومعنى ذلك، باختصار، هو أن التهديد بالاحتلال يرجع إلى الرغبة في استمرار الاستغلال، لا في تأمين موارد مستمرة من البترول.
صفحة غير معروفة