فكان من الطبيعي أن ينهض الضابط الشاب بروح وطنية والاستقلال للقضاء على رمز التخلف الداخلي وتحرير الوطن من الاحتلال الخارجي. ونظرا لأن نظام الخلافة العثمانية بما يمثله من تخلف وقهر كان يحكم باسم الإسلام، وكان الغرب يتقدم باسم العلمانية والتحديث، كان من الطبيعي أن يصبح الغرب نموذجا للتحديث، وتلغى الخلافة، وتتبنى تركية القيم العثمانية؛ العقل، والعلم، والتقدم، والحرية، والديمقراطية، والمساواة، والعدالة، وهي قيم إسلامية في جوهرها؛ عند المعتزلة أنصار التحسين والتقبيح العقليين، وعند المالكية أنصار أن ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن، وعند ابن رشد في النظر العقلي والانفتاح على الأخرين والتأسيس الأخلاقي للشريعة، بل وعند الصوفية الذين كانوا يجاهدون الاستعمار في الزوايا والرباط مثل السنوسية في ليبيا، والمهدية في السودان.
وعلى مدى نصف قرن خف رد الفعل، واسترجع الوعي التركي تاريخه الطويل وتراثه الممتد في أعماق الشعور؛ فحدث رد فعل آخر على الكمالية الأولى ممثلا في حزب الرفاه، والعودة إلى الحمية الإسلامية، وربما إحياء الخلافة. وامتدت سياسة تركية الخارجية إلى الوطن العربي من جديد وإلى أواسط آسيا لتثير الخيال القديم والحلم المستقبلي عن وحدة الأمة في عالم متعدد الأقطاب ، «الإسلام هو الحل»؛ فحدث رد فعل آخر من العلمانيين، ويمثلهم الجيش، ضد التيار الإسلامي الأممي؛ فقضي على التجربة، وحرم على رئيس الحزب العمل السياسي، ثم أصبحت الحركة الإسلامية أكثر وعيا في حزب الفضيلة، ثم حزب العدالة والتنمية جمعا بين الفعل ورد الفعل. واستطاع تهدئة مخاوف العلمانيين من الإسلام السلطاني، وتهدئة مخاوف الإسلاميين من العلمانية الجذرية التي هي في الحقيقة سلفية مضادة؛ فكلاهما يعتقد بأنه الفرقة الناجية، والآخر هو الفرقة الضالة.
الإسلاميون يكفرون العلمانيين، والعلمانيون يخونون السلفيين. استطاع حزب العدالة والتنمية بما لديه من خبرة في العمل السياسي ووعي حضاري تحييد الجيش والحوار معه، وإقناعه بأن الإسلام الحضاري يقوم على القيم العلمانية، وأن القيم العلمانية في حقيقتها قيم إسلامية احتكرها الغرب وجعلها ضد الدين، وهي في الإسلام نابعة منه. كما استطاع التخفيف من حدة الإسلاميين السلفيين، وإقناعهم بالإسلام الحضاري القادر على الدخول في العالم أكثر من الإسلام الحرفي النصي العقائدي الشرعي المؤسسي.
وفي نفس الوقت تم الحوار مع دول الجوار العربي والإيراني والآسيوي، والابتعاد عن المحور الإسرائيلي بالرغم من قضية الأكراد. وما زال يصر على الانضمام للاتحاد الأوروبي، والاستجابة إلى مطالبه فيما يتعلق بملف حقوق الإنسان، وبعض أحكام الشريعة الخاصة بالقصاص، دون التفريط في الرموز الحضارية كغطاء الرأس. وهي رموز موجودة في كل ملة ودين، وتميز كل ثقافة وحضارة. وكذلك الإبقاء على المدارس الدينية أسوة بالمدارس الخاصة الأجنبية الفرنسية والإنجليزية والألمانية. لم تضع لفظ الإسلام كاسم للحزب أو علامة عليه، بل «العدالة والتنمية»، وهما قيمتان إسلاميتان؛ العدل الذي قامت على أساسه السموات والأرض ونظم الحكم، وإمام كافر عادل خير عند الله من إمام مسلم ظالم، والعدل هو الشرط الأول للإمامة قبل القوة عند بعض الفقهاء.
والتنمية إعمار الأرض، وتحويلها من صحراء قاحلة صفراء، هشيم تذروه الرياح، إلى أرض زراعية خضراء، أصلها ثابت وفرعها في السماء كما يصور القرآن. والتنمية الصناعية أيضا؛ تليين الحديد واستعمال النار؛ أي الطاقة، جعل تركية قلعة صناعية وعمرانية يشهد لها الجميع. وعلى الصعيد الداخلي، وبما لها من رصيد شعبي، تحاول تغيير الدستور حتى يكون انتخاب الرئيس بالاقتراع الشعبي المباشر. وتحاور الأكراد اعترافا بحقوقهم في إطار من وحدة الأراضي التركية والعراقية والسورية والروسية؛ فليست الدولة الوطنية ذات العرق الواحد هو النموذج الوحيد للكيان السياسي. ومعظم الدول تحتوي مللا وأعراقا مختلفة مثل سويسرا، وكما قرر ذلك دستور المدينة.
وبدأ المغرب العربي حياته السياسية بحزب الاستقلال الذي يجمع بين الوطن والعروبة والإسلام. وهو القاسم المشترك في المغرب العربي الكبير كله دون أن تتدخل القومية كحاجز أو مانع أو نقيض للوطن والإسلام، كما حدث في الشام كرد فعل على الخلافة العثمانية أولا، والقومية الطورانية ثانيا في تركية. وبفضل حزب الاستقلال نال المغرب استقلاله السياسي من فرنسة بفضل علال الفاسي ورفاقه، ثم تكون في رحم حزب الاستقلال اتحاد القوى الشعبية، ثم الاتحاد الاشتراكي كجناح يساري يضيف إلى الوطن والعروبة والإسلام التقدم والعدالة والتنمية.
وحدث تداول للسلطة من حزب الاستقلال أولا إلى الاتحاد الاشتراكي ثانيا. والفقر والبطالة ما زالا مستمرين، ثم نشأت الحركة الإسلامية السلفية لتنافس الاثنين، وتمارس بعض أجنحتها السرية العنف السياسي، ودون حوار وطني بين الحزبين، ثم نشأ حزب العدالة والتنمية كجسر بينهما باسم الإسلام المستنير، أو الإسلام الاجتماعي، أو الإسلام الحضاري، أسوة بالتجربة التركية. ولما كانت التجربة ما زالت وليدة، ونقصها الحوار الخصب الجاد مع الحزبين السابقين، لم تستطع الحصول على الأغلبية البرلمانية في الانتخابات الأخيرة. وراود الناس الحنين لحزب الاستقلال الذي قاد حركة التحرر الوطني دون الحصول على الأغلبية إلا بالتحالف مع الجبهة الشعبية، أو الاتحاد الاشتراكي، أو كليهما معا. وهو القادر على الدخول في حوار مع الحركة الأمازيغية كما فعل حزب العدالة والتنمية في تركية مع الأكراد. لم يجعل الإسلام عنوانا له، بل العدالة والتنمية، قيمتان إسلاميتان علمانيتان في نفس الوقت مثل مقاصد الشريعة، وهي الضروريات الخمس؛ الحياة والعقل والدين أي القيمة، والعرض أي الكرامة، والمال أي الثروة الوطنية. وقد تم هذا بفضل الملكية المستنيرة والحكم الدستوري والتعددية السياسية الذي كان حلم الحركة الإصلاحية منذ الأفغاني حفاظا على الوحدة الوطنية، أرضا وشعبا.
ولقد استطاعت ماليزيا خوض نفس التجربة التركية المغربية دون مدخل أيديولوجي، سلفي أو علماني، بل بالتوحيد بين الإسلام والوطن. والبداية ببناء الدولة الوطنية الحديثة، وصياغة مشاريع تنموية زراعية وصناعية جعلتها في معدلات التنمية الثانية بعد الصين. التكنولوجيا قبل الأيديولوجيا، ونحن في الوطن العربي ما زلنا في الأيديولوجيا قبل التكنولوجيا. ما زلنا في حالة استقطاب شديد بين السلفية والعلمانية، مع غياب حوار جاد بين الجناحين، وغياب الحوار شبه التام مع الدولة. وكل محاولة لإقامة الجسور، مثل حزب «الوسط» في مصر، وحزب «النهضة» في تونس، بل والصياغات الأخيرة لبرامج الإخوان في مصر والأردن ولبنان واليمن، وتأكيدها على الدولة المدنية، والتعددية السياسية، والحرية والديمقراطية، متجاوزة الحاكمية وتطبيق الشريعة، تلقى آذانا صماء من نظم الحكم باعتبارها منافسا خطيرا لها في حالة انتخابات حرة يخسر فيها الحزب الحاكم. ما زال الصراع على السلطة هو المحرك الأول، وليس جبهة الإنقاذ الوطني التي يشارك فيها الجميع. وشتان ما بين حزبي العدالة والتنمية في تركية والمغرب، وحزب التنمية والعدالة في دارفور غرب السودان؛ بين نظرة توحيدية للوطن، ونظرة تجزيئية له.
تستطيع التجربة التركية والمغربية أن تساعد مصر وليبيا والجزائر وتونس والسودان وسورية وشبه الجزيرة العربية في الوسط والأطراف على خوضها تحديثا للإسلاميين، وإخراج النخبة العلمانية من عزلتها، وإيجاد مخرج لأزمة الحكم. ومصر حلقة اتصال بين تركية شمالا، والمغرب غربا، وشبه الجزيرة العربية وماليزيا شرقا، والسودان جنوبا. ولها لدى شعوبها رصيد من الحضارة والتاريخ.
الدين والثقافة والسياسة في رمضان: عتاب على الإعلام العربي
صفحة غير معروفة