لقد كان حق تقرير المصير من مكتسبات حركات التحرر الوطني في العالم الثالث، والهند جزء منه، وأصبح قرارا من قرارات الأمم المتحدة، وتم إعلانه في الجزائر في 1973م في «الإعلان العالمي لحقوق الشعوب»، في مقابل «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان». وماذا عن تاريخ الهند ونضالها منذ غاندي ونهرو لحق تقرير المصير؟ هل تتكرر مأساة الاستقلال الوطني مرة ثانية في كشمير بعد أن بدأت في حيدر آباد-الدكن في جنوب وسط الهند التي كانت الأغلبية فيها مسلمة، ثم ضمتها الهند عنوة باسم وحدة الدولة واتصالها؟ وكشمير متصلة مع باكستان، ومع ذلك ضمتها الهند عنوة كما فعلت في الدكن. وماذا عن صداقة غاندي وسعد زغلول، ونهرو وعبد الناصر، وباندونج وبلجراد؟ وأيهما أفضل؛ كشمير صديقة للهند، وباكستان جارة للهند، أم جارتان عدوتان وحرب طاحنة بين المقاومة في كشمير وتأييد شعب باكستان لها، ودماء الشهداء تسيل من الطرفين؟
إن الهند وسط العالم الإسلامي، لم تنعم بوحدتها إلا أثناء الحكم الإسلامي. وإمبراطوريتها، إمبراطورية المغول، من عمل المسلمين. وآثارها، تاج محل، من فن المسلمين. وثقافتها وعلمها وحضارتها من آثار المسلمين. وموقعها الجغرافي في داخل المحيط الإسلامي غربا في إيران، وشرقا في ماليزيا وأندونيسية، وشمالا في أفغانستان وأواسط آسيا، وجنوبا في بحر العرب. وأي سياسية تقوم على الجغرافية والتاريخ تجعل الهند صديقة العرب والمسلمين وليست صديقة لإسرائيل. تلك كانت سياستها في الخمسينيات والستينيات أثناء حركات التحرر الوطني، يكفيها ما يحدث في سيريلانكا والصراع الطائفي هناك. وإذا كانت الهند تخشى من السلاح النووي الباكستاني، فالأولى التحالف مع دول الجوار ونزع أي فتيل للتوتر. ولا تخاف الهند من السلاح النووي الإسرائيلي وبها مائة مليون من المسلمين قادرون على الزحف على القدس لتحرير المسجد الأقصى. وآلاف الهنود المهاجرين في دول الخليج يسعون للرزق، ويعيلون الملايين من فقراء الهنود. مصالح الهند مع العرب والمسلمين، والسلام مع جيرانها أكسب لها من الحرب. يكفيها أنها فصلت باكستان الشرقية عن الغربية في 1971م بالحرب لإضعاف جارتها. وبالهند أكثر من أربعمائة قومية، وتهدد بالتقسيم للقضاء على وحدتها وقوتها بعد تفتيت يوغوسلافية، وتقسيم الوطن العربي بداية بالعراق ثم السودان ثم الخليج ثم المغرب العربي.
إن تجمع الصين والهند والعرب وأندونيسية وباكستان يمثل نصف سكان العالم في عالم التكتلات. وإذا انتهى المنع من الدخول في بلدين إسلاميين، فالأولى إلغاء المنع من الدخول في الهند؛ فكشمير الإسلامية هو رأي مليار وربع من المسلمين. وإذا انتهى النظام العنصري من جنوب أفريقية بقيت فلسطين وكشمير. ويعترف العالم كله بحق تقرير المصير للفلسطينيين وإنشاء الدولة الفلسطينية المستقلة، فماذا عن كشمير؟
بيع نفس عربية
على وزن «بيع نفس بشرية»، الرواية الشهيرة عن الاستغلال الجنسي للخادمات الفلبينيات في الخليج في المشرق العربي، شرق مصر، يحدث أيضا «بيع نفس عربية» في جريمة حقن الممرضات البلغاريات مع طبيبين فلسطيني وبلغاري، حوالي خمسمائة طفل ليبي، بمرض «الإيدز» في المغرب العربي ، غرب مصر. والفرق أنه في الشرق، الشاري عربي، والبضاعة آسيوية. وفي المغرب، البائع عربي، والبضاعة عربية.
ليس هذا تحليلا لأحكام القضاء الذي يبدو أنه قام بدوره، ولا تدخلا في شئون الدول وسياساتها المتقلبة؛ فذاك ما يخص شعوبها ومثقفيها الوطنيين ومفكريها الأحرار، بل الأمر يتعلق بما كثر الحديث عنه منذ أكثر من عشر سنوات باسم «حوار الحضارات»، أو حوار الثقافات، أو حوار «الشمال والجنوب»، أو «أوروبة والإسلام». وهو أيضا دفاع عن الثقافة العربية، واحترام الحياة فيها من أجل تغيير الصورة النمطية في الغرب عن العرب؛ أنهم أجساد بلا أرواح، أبدان بلا عقول، قبائل وطوائف بلا إنسان. قد يهزم العرب عسكريا، وقد يعجزون سياسيا، ولكنهم يظلون حاملين لثقافة أثرت في ثقافات العالم، وما زالت موضع عزة وافتخار.
وإن من مظاهر الأزمة العربية الراهنة اختلاط كل شيء بكل شيء؛ النصر والهزيمة، المقاومة والإرهاب، الواقعية والاستسلام، الشرعية والصورية، الحق والباطل، الاستقلال والتبعية، الاستقرار والطوارئ، الأمن والشرطة، القيمة والتجارة، المبدأ والسياسة. وكانت أحد مقومات النهضة توضيح هذا الخلط، والكشف عما يدور في الواقع من تداخل واختلاط الحابل بالنابل، حتى لم يعد يعرف العربي من الصديق ومن العدو، أين المنفعة وأين الضرر.
إن ما حدث من حقن أطفال بمرض «الإيدز» من ممرضات بلغاريات وطبيب بلغاري، ليس فقط جريمة في حق الأطفال أو في حق البشرية، بل هي جريمة ثقافية في رؤية الأوروبيين في شمال البحر الأبيض المتوسط لغيرهم، خاصة العرب والمسلمين في جنوبه، استمرارا لرؤيتهم للأتراك في العصر العثماني، القسوة والتعصب والقهر. وما زالت الرؤية مستمرة حتى الآن في الإرهاب والعنف والتخلف والتسلط، وخرق حقوق الإنسان والمرأة والطفل والشيخ والأقليات. وطالما استمرت العنصرية العرقية والمركزية الثقافية داء دفينا في الوعي الغربي، سيظل مستعمرا غيره، كارها ثقافته، نافيا وجوده الجسدي والحضاري؛ لذلك يناصب الغرب الإسلام العداء في أوروبة الشرقية. أوروبة مسلمة! ويعارض دخول تركية إلى الاتحاد الأوروبي بذرائع واهية اقتصادية وسياسية، والحقيقة برفض حضاري لثقافة مغايرة، وقد كانت يوما تسيطر على أوروبة الشرقية على مدى خمسة قرون . وهو موقف عام يظهر في نتوءات فاقعة بين الحين والآخر، خاصة في اليمين الأوروبي؛ برلسكوني وفالاتشي في إيطاليا، برنار لويس في إنكلترة وأمريكة، لوبين في فرنسة، بوش والمحافظون الجدد في الولايات المتحدة. لا فرق في ذلك بين ممرض وطبيب، بين ثقافة العامة وثقافة الخاصة اللتين تجمعهما الثقافة الإعلامية الحديثة، والإرث التاريخي الطويل. وقد يجمع البلغاري والفلسطيني هم الرزق، ولقمة العيش، وجمع المال، والعمل في بلاد النفط، والتضحية بكل ما هو إنساني في سبيل المال. وقد تعود الفلسطيني المهاجر على ذلك؛ غدرا بأخيه من أجل سوق العمل بعد أن هجر وطنه، وأخذ جنسية بديلة تحميه من غائلة العرب وهوس الحاضر وذاكرة التاريخ.
الآخر شيء للبيع والشراء كما بيع الرقيق الأفريقي في أسواق الولايات المتحدة، منذ خمسة قرون وما زال مستمرا حتى الآن. استضعاف طفل من ثقافة تفخر بأنها هي التي صاغت «الإعلان العالمي لحقوق الطفل»، تهبه الموت كما وهبته قوى الاستعمار لشعوب بأكملها استئصالا في أمريكة واستراليا، واستعبادا لكل الشعوب التاريخية القديمة في كل أرجاء أفريقية وآسيا وأمريكة اللاتينية، والوسيلة الحقن بفيروس «الإيدز» الذي لا علاج له حتى يصبح الموت قدرا محققا لخمسمائة طفل، جيلا بأكمله يورث من بقي منهم على قيد الحياة المرض لجيل لاحق. وينتشر المرض بوسائل أخرى من الأوروبيين الشاذين جنسيا عن طريق اتصالهم بالأطفال، وإغراء الفقراء منهم بالمال والحلوى أو المبيدات المسرطنة، وهو ما تفعله إسرائيل في الزراعة المصرية.
ودون افتراض أن يكون القضاء تمثيلية احتراما لسلطته واستقلاله، فقد أحسن القضاة صنعا بإصدار حكم الإعدام على الممرضات البلغاريات والطبيبين البلغاري والفلسطيني بدرجتيه، الأولى والثانية، العادي والاستئناف، تطبيقا للقصاص؛ فمن قتل نفسا واحدة فكأنما قتل الناس جميعا في كل الشرائع السماوية والقوانين الوضعية. ولا سلطة أعلى من سلطة القضاء، إلا أن لجنة أخرى موجهة سياسيا تعمل الإرادة السياسية من ورائها، والقضاء مجرد غطاء شرعي، خففت الحكم إلى السجن المؤبد، خمسة وعشرين عاما. ولو أن ذلك قد تم في بلد لا يسن به قانون القصاص مثل بعض البلاد الأوروبية التي تعتبر «الإعدام» ليس حلا، ولا يحيي الموتى، وخرقا لحقوق الإنسان، فالحياة حق طبيعي، ولا يمكن تصحيح خطأ وهو القتل بخطأ آخر وهو الإعدام، فمجموع الخطأين لا يكون صوابا، لكان الأمر مفهوما، ولكن إلغاء عقوبة الإعدام تم في ثقافة بها القصاص
صفحة غير معروفة