84

عقلي وعقلك

تصانيف

إن القول بأن وجداني هو مجموعة من الرجوع الانعكاسية، كالقول تماما بأني لست مؤلفا من لحم وشحم ودم وعظم، إنما أنا مؤلف من كربون وهيدروجين وأوكسجين وحديد وفسفور وصوديوم، إلخ.

إن الماء مؤلف من هيدروجين وأكسجين، ولكن خصائص الماء ليست خصائص هذين العنصرين، ونحن هنا لسنا إزاء إضافة وجمع يساويان كما، وإنما نحن إزاء إضافة وجمع يساويان كيفا؛ أي: انبجاسا جديدا لم يكن للحي به عهد من قبل.

في الأصل رجوع انعكاسية موضعية لا تتيح التفكير لسرعة زوالها.

ثم رجوع انعكاسية قد صارت عواطف عامة بطيئة مثابرة فأتاحت التفكير وهذا انبجاس جديد، وهو تفكير ذاتي انفعالي ولكنه تفكير نشترك نحن والحيوان فيه.

ثم عواطف مباشرة أو معدولة قد تجمعت في الإنسان، فلم يكن حاصل تجمعها زيادة الكم، بل كانت انبجاسا جديدا في الكيف فأحدثت الوجدان.

والخطأ الأصلي عند بافلوف وواطسون أنهما يخلطان بين العادات الجسمية والنفسية وبين التفكير الوجداني، فأنا أشرب الشاي كل يوم برجوع انعكاسية كونت عندي عادة ليس فيها تفكير، ولكني أكتب هذا الكتاب بوجدان أحاول فيه أن أتخلص من عواطفي وأن أفكر التفكير الموضوعي المنطقي، وهناك بلا شك عادات ذهنية كثيرة، غير العادات النفسية، تعود إلى انعكاسات أو عواطف، وكذلك ليس شك في أن كثيرا بل كثيرا جدا من تفكيرنا يعود إلى عواطفنا ورجوعنا الانعكاسية، وهذا هو التفكير الذاتي أو الانفعالي.

وقد سبق أن قلنا: إن معظم أخطائنا في التفكير يعود إلى أننا ننظر ونفكر بالنظر والتفكير العاطفيين، ومن شأن التفكير العاطفي أنه يتحيز جزءا من كل فإذا تغلبت على عاطفة الجوع فكرت في الطعام فقط، فأنا هنا ذاتي انفعالي في تفكيري، ومجال هذا التفكير صغير، ولكن التفكير الوجداني يحملني على خمسة أو ستة اعتبارات، مثلا قيمة الإقلال من الطعام حتى لا يثقل علي فأنعس، ومثل تجنب اللحم لأن أحماضه كثيرة، ومثل تجنب الملح لأنه يزيد الضغط، ومثل ضرورة البطء في الأكل للمؤانسة، ومثل تأمل الآنية الجميلة للذة الفنية، إلخ.

فكل هذه اعتبارات اتسع بها مجال التفكير، وصحيح أنها مؤلفة من عواطف مختلفة، ولكن تجمع هذه العواطف لم يؤد إلى جمع وإضافة فقط، بل أدى إلى تفكير كيفي هو الوجدان، فصار تفكيري موضوعيا منطقيا واسعا بدلا من أن يكون عاطفيا انفعاليا فقط، كما أن تجمع الأكسجين والهيدروجين لم يؤد إلى جمع وإضافة فقط، بل أدى إلى تغير كيفي بإيجاد الماء.

حين تسودني العاطفة يكون تفكيري تسليميا. كالمحب يسلم بجمال حبيبته تسليما أعمى، وكالجائع يأكل أي شيء، ولكني حين تسودني الوجدان أنتقد وأحلل، والاختراع والاكتشاف كلاهما من الوجدان.

التفكير العاطفي يسير عفوا، بل أحيانا قسرا لا تملك رده كما يحدث في أحلام اليقظة؛ أي: الخواطر السائبة، أما التفكير الوجداني فيسير بإرادتنا، نوجهه كما نريد، وعندما تمرض النفس يغيب الوجدان، وترتد إلى التفكير العاطفي القهري الذي لا تستطيع التخلص منه، ونحن نرث غوغاء من الشهوات والعواطف نتعلم في المجتمع كيف نتسلط عليها وننظمها ونعبئها جنودا في خدمة الوجدان، وعلى قدر نجاحنا في هذا التسلط أو التنظيم تكون سلامتنا النفسية وتصرفنا الحسن.

صفحة غير معروفة