والشقي لا ينمو؛ لأنه انعزالي قانع بعواطفه يجترها ويتغذى بها، وهو لا يدري ولا يعمل ولا يخدم، ونظرته إلى الماضي تقف عند حادثة في حياته، فيلصق بها ويجعل منها بؤرة للهم الدائم العقيم، يفتأ يذكرها ويعطل بها جميع مواهبه بذكرها، السعيد نشيط وجداني موطري متفائل، له هدف مستقبلي، دائم الحركة الذهنية والجسمية، والشقي راكد عاطفي ساكن متشائم، لا يتحرك إلى المستقبل؛ لأنه مقيد بالماضي، وهذا القول يصح عن الأمم كما يصح عن الأفراد.
والسعيد صريح سافر مستقيم الأخلاق في ضوئه النفسي.
والشقي متستر سري معوج ماكر، له وجهان أو ثلاثة وجوه.
والسعيد مجاهد يطلب ترقية ذهنه ونفسه وعائلته ومجتمعه، يؤمن بديانة ما قد استقر عليها بوجدانه.
والشقي جامد لا يرقي نفسه أو مجتمعه أو عائلته، ليس له دين، أو هو لا يعرف من الدين سوى الممارسات العقيدية اليومية المألوفة.
وقليل من التحليل للأخلاق ينير بصيرتنا؛ فإن الصراحة مثلا تخدم الصحة النفسية؛ لأننا لا نتحمل مجهود الإخفاء الذي يتحمله المنافق الموارب، والرقي والتطور بالدراسة والخدمة يملآن النفس سرورا، وهما يحركان النشاط ويصونان الصحة النفسية والجسمية؛ ولذلك فإن الكذاب والغشاش والمنافق والماكر، كل هؤلاء يتعبون؛ لأنهم يتحملون مجهودا في ستر أشياء لا يحتاج إلى سترها الأمين المخلص، والجامد الذي لا يرتقي ولا يتطور يحس تشاؤما ملازما؛ لأنه لا يجد مغزى لحياته.
والمتدين الذي سكن إلى ديانة حسنة وصل إليها بمجهوده - وليس بتقاليده - ينتقل في سلوكه وتصرفه من العاطفة إلى الوجدان، فهو يفكر أكثر مما ينفعل، في حين أن ذلك الآخر الذي لم يسكن إلى ديانة حسنة، قد وصل إليها بمجهوده، بل قنع بالممارسات المألوفة، يبقى على المستوى العاطفي، يكره أكثر مما يحب، ويتعصب ويغالي بلا روية.
والتدين كالغناء واللحن؛ إما عاطفة وإما وجدان؛ فالرجل الذي ربي نفسه وارتقى يحب الأغاني والألحان الوجدانية التي لا تكاد ترتبط بعاطفته، أو هو يرى على الأقل أن هذه العاطفة ليست جنسية؛ فالأغاني والألحان عنده ليست أغانيج، ونحن حين نستمع إلى باخ أو بيتوفن لا نحس أية يقظة جنسية، ولكننا نحس هذه اليقظة عندما نستمع إلى العامة، أو بالأحرى الغوغاء من المغنين والموسيقيين في أوروبا، ونحسها في جميع المغنين والموسيقيين في مصر تقريبا، بل إني لأستمع أحيانا إلى مغن مصري في المذياع فأجد أنه يغنج كالنساء، وهكذا الشأن في جميع الفنون؛ فإنها تخاطب العواطف عند العامة، وتخاطب الوجدان عند الخاصة المثقفة، وقد شرع الرسم يتجه نحو الوجدان في السنين الأربعين الأخيرة.
والمتدين كذلك قد يعتمد على العواطف؛ لأن له عقائد جامدة كثيرا ما تؤدي إلى الفساد الروحي كالتعصب مثلا، ولكن المتدين الذي يعتمد على الوجدان إنما ينمو بالمعارف والتفكير ولا ينقطع نموه طوال الحياة.
ويرى القارئ أني هنا أؤكد قيمة الوجدان في السعادة، وأعزو الشقاء إلى تسلط العواطف، وهذا هو ما انتهيت إليه، ولكن ربما يحتاج القارئ إلى رأي آخر؛ ولذلك أعرض عليه تفسيرات أخرى وضعها السيكلوجي العظيم أدلر يجد أنها تحليلية أو توضيحية للسعادة، وهي: (1)
صفحة غير معروفة