والمعاني الأخرى التي نقصدها هنا لجلاء معنى الوجود هي تلك التي تذكر في المنطق باسم «الجهات» عند الكلام على القضايا الموجهة، وهي الوجوب والامتناع والإمكان والحدوث؛ ذلك بأننا في كل قضية نعقل النسبة بين المحمول والموضوع ، ونعقل جهة وجود المحمول للموضوع. فالوجوب ضرورة ذاتية أو اقتضاء ذاتي. وقد يكون المقتضى عين الوجود، مثل اقتضاء الذات الإلهية للوجود بمحض حقيقتها، من حيث إن الله موجود بذاته أو واجب الوجود، ومثل اقتضاء العلة إيجاد معلولها بعد أن تم استعدادها لإيجاده وانتفى كل عائق خارجي. وقد يكون المقتضى تمام تكوين الماهية؛ مثل وجوب اجتماع الحيوانية والنطقية للإنسان، أو لزوم خاصة جوهرية من الماهية؛ مثل الضحك والموت للإنسان، ومساواة زوايا المثلث الثلاث لقائمتين. وقد يكون المقتضى لزوم تال معين عن مقدم معين متى كان المقدم بديهيا أو مبرهنا؛ مثل: لكل متحرك محرك، والعالم متحرك فللعالم محرك. في هذه الحالات يرى العقل وجوبا في موضوع تعقله، ويجد لزاما عليه أن يقر بهذا الوجوب، أعني أنه يرى نفسه تابعا للوجود معينا به، خلافا لما يزعم الحسيون والتصوريون الذين لا يعتقدون بثبات الماهيات وثبات العلاقات فيما بينها. وعلى الوجوب وحالاته المختلفة يقاس الامتناع؛ فإن الممتنع بالذات هو ما يقتضي لذاته عدم وجوده، فلا يوجد ولا يمكن أن يوجد لمنافاة جوهرية، مثل المنافاة بين الحيوان الأعجم والكلام، فيمتنع أن يتكلم الحيوان الأعجم. ومثل المنافاة بين أن يكون العالم ناقصا متغيرا ويكون موجودا بذاته، فيمتنع أن يكون العالم موجودا بذاته.
ويفترق الإمكان عن الوجوب والامتناع معا؛ فإن الممكن ما لا يقتضي لذاته وجودا ولا عدما، فمتى «فرض غير موجود أو موجودا لم يعرض منه محال» (ابن سينا، النجاة)، أعني أنه كالممتنع غير موجود، لكن لا بسبب منافاة جوهرية، ومتى وجد وجد كالواجب، لكن لا باقتضاء ذاتي، فيجب أن يعتبر من وجهين: وجه ذاتي ووجه خارجي، الإمكان الذاتي يؤخذ من اتساق الممكن - هذا الموضوع إذا ما أوجد سمي حادثا. فمعنى الحدوث أن الموضوع الموجود بالفعل وجد بعد لا وجود، فكان من الممكن ألا يوجد، وأنه وجد بلا وجوب، فمن الممكن ألا يوجد بعد وقت.
هذه الجهات الأربعة ترجع إلى اثنتين: يرجع الممتنع إلى الواجب ويعمهما معنى الضرورة؛ «هذا ضروري الوجود، وذاك ضروري العدم»، ويرجع الحادث إلى الممكن ويعمهما معنى الإمكان أو اللاضرورة.
21
وهكذا نرى أن للوجود أحكامه، وأن معنى الوجود أول ما يقع في العقل ويظل النبراس الذي يسترشد به العقل. ومن هذا نرى أن ابن سينا، مع تعريفه معنى الوجوب والامتناع بمعنى الضرورة، كان قليل الدقة حيث يقول: «الواجب يدل على دوام الوجود، والممتنع يدل على دوام العدم، والممكن يدل على لا دوام وجود ولا عدم.» هذا القول أقرب إلى المذهب الحسي منه إلى المذهب العقلي الذي كان مذهبه؛ فإن الواجب إنما يدل على دوام الوجود لكون الوجود ذاتيا له، في حين أن دوام وجود الممكن لا يحيله واجبا، وهذا خطأ وقع فيه أرسطو لما أراد أن يستدل بقدم العالم (في عرفه) على ضرورته. وقد كان ابن سينا يعتقد بقدم العالم ويثبت مع ذلك أن العالم ممكن غير ضروري، فيدل على أنه كان يعلم الفرق بين وجوب الوجود ومجرد دوام الوجود. كذلك نقول في تعريفه للممتنع بدوام العدم، فإن مجرد دوام العدم لا يدل على الامتناع، وكم من الممكنات قد لا تكون أوجدت وقد لا توجد أبدا وهي مع ذلك ممكنات؛ إن دوام العدم للممتنع هو لكونه غير قابل للوجود. وأخيرا إن الممكن إنما يدل على لا دوام وجود ولا عدم؛ لأن الوجود لا هو من ماهيته ولا هو مناف لها. فالفرق واضح بين معاني الجهات وبين علاماتها الظاهرة.
الفصل الثاني
لواحق الوجود
(1) تعدادها
إذا تأملنا معنى الوجود وأمعنا التأمل، رأينا أن كل موجود فهو واحد نوعا من الوحدة، أي إنه غير منقسم في ذاته، ولا في العقل من جهة ما يعتبر موجودا واحدا. ورأينا أن كل موجود فهو حق نوعا من الحقيقة، أي إنه هو ما هو وليس شيئا آخر، وأنه من ثمة معقول؛ إذ إن الحق نسبة إلى العقل. ورأينا أن كل موجود فهو خير نوعا من الخيرية، أي إنه من الصلاحية بحيث يتعلق به ميل واشتهاء؛ إذ إن الخير نسبة إلى الإرادة. ورأينا أخيرا أن كل موجود فهو جميل نوعا من الجمال ، أي إن من التناسق والبهاء بحيث يروق للعقل وللميل معا.
هذه المعاني الأربعة لازمة من معنى الوجود لزوما مباشرا، تدل على خصائص للموجود بما هو موجود، وليست قاصرة على كلي آخر أخص من الموجود؛ هي وجهات له لا تتمايز منه تمايزا حقيقيا، ولا تزيد عليه شيئا حقيقيا، بل كل ما تزيده عليه اعتبار عقلي فقط. وتقال مثله بالتشكيك أي بطريق التناسب؛ إذ إن كل موجود فهو واحد بحسبه، حق بحسبه، خير بحسبه، جميل بحسبه. فهي تلائم الموجود إطلاقا، وتعلو على الأنواع والأجناس التي ينقسم إليها الوجود فتقال عليها جميعا.
صفحة غير معروفة