خلص لنا من الفصل السابق أن عقلنا يدرك الموجودات الطبيعية أولا بالذات؛ يبدأ بها، ويعلمها في أنفسها كما هي ممثلة في الحواس وفي الذاكرة والمخيلة. والآن نريد أن نبين أن الموجودات الطبيعية ما هي إلا موضوعه الخاص به بما هو إنساني، أي باعتباره عقل نفس متحدة ببدن، وأن له موضوعا عاما باعتباره عقلا بإطلاق، يجاوز الطبيعة المحسوسة إلى أصولها وشروطها غير المحسوسة، فيمتد إلى مطلق الوجود، أي إلى كل موجود أيا كان، وإلى معنى الوجود الكامن في كل ما يتعقل وفي كل فعل من أفعال العقل، وإن لم يكن تعقله في هذا المضمار أولا بل لاحقا على تعقل الماديات. ولم يكن بالذات بل كان بالاستدلال، فيصل إلى علم ما بعد الطبيعة الذي لا بد من تعيينه أدق تعيين وتمحيص الآراء فيه، كي نحيط بمجال العقل بأكمله، ونطمئن إلى صحة أفعاله وصدق معقولاته.
فمن جهة امتداد العقل إلى كل موجود، لما كانت المعرفة تشبه العارف بالمعروف تشبها معنويا كما قلنا؛ فإنه إذا حصل شبه المعروف في النفس محسوسا كان أم مفعولا، صارت النفس هي المعروف، لأن لا ماديتها تسمح لها بقبول كل صورة، فتصير مرآة الوجود بانعكاس مختلف الموجودات على صفحتها غير أننا ندرك الروحيات بعد الماديات، ونلقى صعوبة في هذا الإدراك فلا نستطيع أن نكون عن الروحيات معاني ذاتية أو مطابقة لها، بل ندركها بطريق غير مباشر هو طريق الاستدلال، فنستدل بالمعلول على العلة، وبالعرض على الجوهر، ونتعقل الجوهر الروحي بمعان مستفادة من الماديات، ونعبر عن تعقلنا إياه بألفاظ تدل أول ما تدل على الماديات. هكذا نعرف وجود الله من حيث هو علة وجود العالم، ونعرف صفاته ضربا من المعرفة بمجاوزة صفات المخلوقات إلى كمالها الأقصى، وتنزيهه تعالى عن حدودها ونقائصها. ولو صح المذهب التصوري وكان في النفس معان غريزية أو فائضة من عقل أعلى، للزم عن ذلك أن لدينا معاني ذاتية أو مطابقة عن الموجودات الروحية، وعما يفوتنا إدراكه بالحس من الماديات، وقد لاحظنا أن كلتا النتيجتين باطلتان. وهذا موقف وسط بين الحسية والمحجمة عن مقاربة المعقولات، وبين التصورية الزاعمة أن عقلنا كفء لإدراك المعقولات والروحيات كما هي في أنفسها.
ومن جهة إدراك العقل للوجود بما هو وجود، فإن هذا المعنى أول ما يحصل في تصور العقل؛ ذلك بأن الوجود هو العنصر المشترك بين الموجودات على اختلافها، وبين معلومات العقل، كما أن اللون مثلا هو العنصر المشترك بين مدركات البصر. إن معنى الوجود أبسط المعاني وأعمها، وهو الوجه الذي يدرك به العقل كل موجود: ففي التصور الساذج يعبر العقل (تعبيرا يتفاوت وضوحا) عما هو الشيء أو ماهيته، وفي الحكم يقول العقل قولا صريحا ما هو الشيء في ذاته أو بالنسبة إلى غيره، أي يثبت العقل وجود الشيء وفقا لماهيته فيقول: «الأرض هي كروية» أو ينفي حكما يأبى قبوله، والحكم صادق إذا وافق ما هو موجود، أو ممكن الوجود، فإن الممكن ما ليس يحول دون وجوده بالفعل حائل ما ماهيته، بل تلزم له صفاته بقوة ماهيته، وفي الاستدلال إذ يقارن العقل بين المقدمتين يرى فيهما علة وجود النتيجة، وأن الأمر لا يمكن أن يكون بخلاف. وكلما أثبتنا شيئا لشيء، سواء بحكم واحد أو باستدلال، فنحن نعني أن الأمر هو كذلك في الحقيقة ويستحيل أن يكون غير ذلك. فإثبات وجوب وجود شيء لشيء، وإثبات امتناع عدم وجود شيء لشيء؛ كل أولئك إثبات مبني على ضرورة الوجود، فليتأمل في هذا من قد يجد غموضا في قولنا إلى الموضوع العام للعقل هو الوجود من حيث هو كلي أو مطلق الوجود. وليتأمل في اللاوجود المطلق والتناقض والامتناع، يجدها أمورا غير معقولة لا يقابلها معنى ذاتي في الذهن، بل يقابل اللاوجود معنى الوجود المسلوب، ويقابل التناقض معنى الاتساق المقتضي للوجود، ويقابل الامتناع معنى الضرورة أو معنى الإمكان، أعني وجوب الوجود، أو وجوب عدم وجوده، أو إمكانه.
فعلم ما بعد الطبيعة هو علم مطلق الوجود ولواحقه الذاتية، أو علم الأمور العامة كما قال المتكلمون، يعنون أعم الأمور في الوجود وفي العقل. وقد دعي بما بعد الطبيعة لأنه في الواقع يعلم لنا بعد الطبيعيات، ولأن من شأن عقلنا أن يتأدى من المحسوس إلى المعقول. لكنه الأول من حيث المرتبة، فإن أوضح العلوم وأوثقها لبساطة موضوعاته وبداهتها، ولتعلق سائر العلوم به كما يتعلق المركب بالبسيط والجزئي بالكلي. لهذا دعاه أرسطو بالفلسفة الأولى وتتبين ضرورة هذا العلم من وجهين: الوجه الأول أن ما عداه من العلوم علوم جزئية، ينظر كل منها في وجه من وجهات الوجود: فالرياضيات تنظر في الوجود الطبيعي من حيث هو كم، والطبيعيات تنظر في جوهر هذا الوجود وفي تغيراته، فلا بد من علم كلي يتناول الوجود بالإطلاق مجردا من كل تعيين، أي يتناول الوجود المشترك بين الموجودات ومبادئه وعلله. والوجه الثاني لضرورة هذا العلم أن العلوم الجزئية تسلم مقدماتها تسليما ولا تبرهن عليها لما هو معلوم من أن البرهان يستند على مقدمات أعم من النتائج، فإذا تناول صاحب علم ما مقدمات هي أعم من مقدمات علمه فقد خرج عن موضوع علمه وعن منهاجه واشتغل بعلم أعلى. ولما كان لا بد من البرهان فإن العقل يرتقي من مقدمات إلى أخرى أعم، حتى يصل إلى قضايا هي أعم المقدمات وأبسطها لاقتصارها على معنى الوجود وعلى ما يلائم الوجود بالذات. فلا بد من علم كلي يستخلص هذه المبادئ ويجلوها ويدافع عنها أو تبقى المعرفة ناقصة غير قائمة على أساس.
وإذا ما ثبت لدينا مبادئ الوجود التي هي مبادئ العقل، ورددنا على اعتراضات المفكرين وحللنا إشكالاتهم؛ انفسح أمامنا الوجود بأجمعه فأثبتنا النفس وأثبتنا الله. حتى إذا ما أتينا إلى الأخلاق ووجدناها تفتقر إلى معرفة ماهية الإنسان وأصله ومصيره، وإلى معاني الحرية والخير والفضيلة والجزاء والواجب والحق والعدل؛ فلن ننكرها كما يفعل الحسيون بدعوى أن ليست هناك ماهيات، وأن ليس لنا من موضوع معرفة سوى المحسوس، وأن العلم إنما يقرر ما هو كائن لا ما يجب أن يكون. ولن نضعها وضعا دون تعقلها كما يفعل كنط واتباعه من التصوريين، بل نتناول مبادئها من الفلسفة الأولى ونبرهن عليها بهذه المبادئ، فيبدو لنا الوجود معقولا في جميع نواحيه، وترد إلى العقل الجليل المقدس (كما يصفه أفلاطون) مكانته السامية، ويبين بكل جلاء أن ما بعد الطبيعية لا يعني ما وراء الوجود وما في عالم الخيال، وإنما هو علم صميم الوجود، وأساس العلوم وتاجها. (2) مذاهب شتى
خصوم هذا العلم إذن هم التصوريون والحسيون: فأما التصوريون فبمقتضى مبدئهم القائل: إن المعرفة مقصورة على التصورات ولا تتعداها إلى الموجودات، وأما الحسيون فبمقتضى مبدئهم القائل: إن المعرفة مقصورة على المحسوس، فضلا عن مشاركتهم في المبدأ التصوري. غير أن ديكارت ومالبرانش وسبينوزا ولبنتز وباركلي لم يفطنوا إلى مقتضى المبدأ التصوري، فظلوا على فطرة العقل، واعتقدوا بموضوعية المعاني والأحكام والاستدلالات، وخرجوا من الفكر إلى الوجود بلا تحرج، متحدثين عن النفس وعن الله وعن مسائل ما بعد الطبيعة عامة. فلما أنكر لوك وجود المعاني الغريزية، ومقدرتنا على إدراك الماهيات والجواهر، ومنها نفسنا ذاتها، ونوع علاقتها بالبدن، ومنها الله وصفاته، ولما نقد هيوم المبادئ العقلية، وبخاصة مبدأا العلية والغائية؛ تنبه التصوريون حينذاك إلى المعنى العميق لمذهبهم وضرورة الاختيار بينه وبين ما بعد الطبيعة. ووجد فلاسفة أرادوا الجمع بين الطرفين لما لهذا العلم من أهمية بالغة لحياتنا الأخلاقية والروحية، وبترك كل منهم طريقة تحقق معناه. إن محاولاتهم لحقيقة بالنظر قبل الخوض في ما بعد الطبيعة كما نراه ورد الحملات عليه في مسائله المختلفة، وإن ردودنا على هذه المحاولات لكفيلة بزيادة إيضاح ماهية هذا العلم بعد تعريفنا الموجز له. فنبدأ بمذهب كنط، ونمضي مع التاريخ إلى أوجست كونت، فإلى هربرت سبنسر، فإلى وليم جيمس، وأخيرا إلى هنري برجسون.
رأينا أن كنط يحلل الحكم إلى مادة مستفادة من التجربة، وصورة يطبقها العقل عليها، وأن الحكم لا يعد مقبولا إلا إذا اشتمل على مادة أو حدث حسي. وما بعد الطبيعة يدعي إدراك النفس والحرية والله، ويخوض بصددها في مسائل كثيرة. ولكن هذه الموضوعات خارجة عن نطاق التجربة، وليس لنا بها حدس عقلي، فتطبيق المقولات عليها تطبيق صور على صور لا على أشياء موجودة ومعلومة. هذا حكم العقل النظري على قيمة ما بعد الطبيعة، بيد أن هذه المعاني الثلاثة «حاجات» جوهرية لنا، وليست ترمي الفلسفة النقدية إلى إبطالها، بل فقط إلى بيان أن ليس باستطاعة عقلنا البرهنة عليها. فالباب مفتوح للإيمان بها إن وجدت واسطة لذلك. والواسطة موجودة، وهي الأخلاق. وتقوم الأخلاق على معنى الواجب، وليس الواجب ممكنا إلا بالحرية؛ فإنه إذا كان على الإنسان واجب كانت له القدرة على أدائه، وأداء الواجب هو السبيل إلى تحقيق سعادتنا. وليس في طاقة الإنسان أن يصير قديسا، ولكنه يستطيع أن يترقى إلى غير نهاية نحو القداسة، ولكي يمكن هذا الترقي اللامتناهي يلزم أن تدوم شخصيتنا: وذلك هو خلود النفس. ويلزم أن يؤثر في الطبيعة فاعل تتحد فيه القداسة والسعادة اتحادا تاما، أي أن يوجد الله. فالحرية والخلود والله موضوعات يؤدي إليها العقل العملي مع عجز العقل النظري عن البرهنة عليها.
هكذا اعتقد كنط أنه أنقذ ما بعد الطبيعة من إنكار المنكرين، وهو لم يفعل إلا أن اصطنع حجج العقليين في إثبات المعاني الثلاثة من الوجهة الأخلاقية. ولكنه بإنكاره الحدس العقلي قد أشبه الحسيين وأسقط حقه في الانتقال من معنى الواجب إلى معاني ما بعد الطبيعة؛ إذ من الواضح أن هذه المعاني ليست موضوع حدس حسي، فإذا لم يكن لنا حدس عقلي امتنع علينا البلوغ إليها. إن الحدس على العموم إدراك موضوع ما بحضور هذا الموضوع لدى القوة المدركة،
1
فالحدس الحسي إدراك الموضوع بسبب حضور للحس الظاهر؛ كالأشياء الخارجية، أو للوجدان؛ كأفعالنا الباطنة ووجودنا الذاتي. والحدس العقلي إدراك حقيقة المعاني والمبادئ البديهية: فإدراك المعنى المجرد حدس عقلي، ولو أن العقل غير متصل بالمحسوس مباشرة، ولكنه متصل بالصورة الخيالية الممثلة للمحسوس والتي يجرد منها المعنى. فالحدس ههنا إدراك شيء حقيقي بحضور صورة هذا الشيء لدى العقل، وكذلك إدراك الرابطة في الحكم وإدراك لزوم التالي من المقدم في الاستدلال هما نوعان من الحدس العقلي. فموضوعات ما بعد الطبيعة ندرك وجودها بحدس حسي لمعلولاتها، ثم ندركها هي، لا في أنفسها، بل بتعيين ماهيتها وخصائصها تبعا لمفاعيلها المدركة بالحس.
صفحة غير معروفة