4
ولكن لا يستطيع كل واحد أن يجعل الآلهة يتكلمون، أو أن يؤمن به عندما يجهر بأنه ترجمان لهم، وتكون روح المشترع العظيمة هي المعجزة الحقيقية التي تثبت رسالته، ويمكن كل إنسان أن ينقش موائد من حجر، أو أن يشتري هاتفا للغيب، أو أن يتظاهر بأنه يعاشر إحدى الإلهات سرا، أو أن يروض طائرا ليكلمه في أذنه، أو أن يجد وسائل غليظة أخرى للتمويه على الشعب، حتى إنه يمكن من لم يعرف غير هذا أن يجمع، مصادفة، كتيبة من الحمق، ولكنه لن يؤسس دولة مطلقا، ولا يلبث عمله الأخرق أن يزول معه، ويؤلف النفوذ الفارغ صلة عابرة، ولا تجد غير الحكمة ما يجعله باقيا، ولا تزال الشريعة اليهودية القائمة دائما، وشريعة ابن إسماعيل التي تسيطر على نصف العالم منذ عشرة قرون، تنبئان بالعظيمين اللذين أملياهما، ومع أن الفلسفة المنتفخة، أو روح التعصب العمياء، لا ترى فيهما غير مخادعين مبخوتين فإن السياسة الصحيحة تبصر في نظمها تلك العبقرية العظيمة القوية التي تهيمن على المؤسسات الخالدة.
ولا ينبغي لنا أن نستنتج مع واربرتن، مما تقدم، وجود غرض مشترك للسياسة والدين بيننا، غير أن أحد هذين الأمرين كان يصلح أداة للآخر في الأدوار الأولى للأمم.
الفصل الثامن
الشعب
كما أن المهندس يعاين الأرض ويستبرها قبل إقامة بناء عظيم عليها، وذلك ليرى هل تستطيع حمل الثقل، لا يأخذ المشترع الحكيم في وضع قوانين صالحة بنفسها، وإنما يبحث مقدما في كون الشعب الذي يعدها له قادرا على احتمالها أو لا، ولذا رفض أفلاطون أن يمنح الأركاديين والسيرنائيين قوانين عالما أن هذين الشعبين كانا غينيين فلا يطيقان المساواة، ولذا وجد في أقريطش قوانين صالحة ورجال أردياء عن كون مينوس لم يدرب غير شعب مثقل بالعيوب.
وظهر في العالم ألف أمة أخذت بأسباب العظمة من غير احتمال لقوانين صالحة، حتى إن التي استطاعت احتماله منها لم تستطع الصبر عليه إلا لوقت قصير من تاريخها الطويل، ومعظم الشعوب، ككثير من الناس، لا يكون مطواعا في غير شبابه، فهو إذا شاب تعذر إصلاحه، والعادات إذا ما استقرت والأوهام إذا ما تأصلت حينا كان من الأمور الخطرة الفارغة أن يراد إصلاحها، حتى إن الشعب لا يطيق مس أمراضه لمعالجتها، وهو في هذا كأولئك المرضى الهوج الجبناء الذين يرتعشون عند منظر الطبيب.
وكما أنه يوجد أمراض تقلب رءوس الناس فينسون الماضي، يوجد في تاريخ الدول، أحيانا، أدوار عنيفة يكون للثورات فيها من العمل في الشعوب ما تعمله بعض الأزمات في الأفراد فتقوم كراهية الماضي مقام النسيان، وتبعث الدولة التي أحرقتها الحروب الأهلية من رمادها وتسترد قوة شباب بإفلاتها من فكي الموت، شأن إسبارطة في زمن ليكيورغ، ورومة بعد آل تاركن، وشأن هولندة وسويسرة بعد طرد الطغاة في الزمن الحديث.
بيد أن هذه الحوادث نادرة، وهي استثناءات تجد سببها دائما في النظام الخاص للدولة المستثناة، ولا يمكن هذه الاستثناءات أن تتفق لذات الشعب مرتين، وذلك لإمكان جعل نفسه حرا ما بقي متوحشا، ولكنه يغدو غير قادر على ذلك عند بلى النابض المدني، وهنالك يمكن الفتن أن تبيده من غير أن تستطيع الثورات أن تجدده، وهو إذا ما كسرت قيوده لم يلبث أن يتفرق ويصبح غير موجود، وهو يحتاج إلى سيد فيما بعد، لا إلى منقذ، فيا أيتها الشعوب الحرة، اذكري هذا القول الجامع وهو: «يمكن اكتساب الحرية، ولكنها لا تسترد مطلقا.»
وليس الشباب طفولة، ويأتي على الأمم، كما على الناس، دور شباب، وإن شئت فقل دور رشد لا بد من انتظاره قبل إخضاعها للقوانين، غير أنه لا يسهل أن يعرف دائما، وهو إذا ما سبق أخفق العمل، وذاك الشعب أهل ليدرب منذ نشأته، وذلك الشعب لا يكون أهلا لذلك إلا بعد عشرة قرون، ولن يتمدن الروس حقا؛ لأنهم تمدنوا على عجل، وكان بطرس يتصف بعبقرية اقتدائية، لا عبقرية حقيقية، والعبقرية الحقيقية هي التي تبدع وتصنع كل شيء من العدم. أجل، إنه فعل أمورا صالحة، غير أن معظم ما فعل كان مخالفا للصواب. أجل، إنه أبصر توحش شعبه، غير أنه لم يبصر عدم بلوغه نضجا يتقبل معه الحضارة ... وهو قد أراد تمدينه حينما كان يجب تمرينه على الحرب، وهو قد أراد أن يصنع ألمانا وإنكليزا منذ البداءة حينما كان عليه أن يصنع روسا، وهو قد منع رعاياه من أن يكونوا ما يمكنهم أن يكونوه؛ وذلك بإقناعهم أنهم كانوا ما لا يكونونه، وهو في ذلك كالأستاذ الفرنسي الذي يكون تلميذه ليلمع في طفولته ولا يكون شيئا مذكورا في بقية عمره، وترغب إمبراطورية روسية في إخضاع أوربة، وستخضع هي نفسها، فسيكون رعاياها وجيرانها من التتر سادتها وسادتنا، وتظهر لي هذه الثورة آتية لا ريب فيها، ويعمل جميع ملوك أوربة، متفقين، تعجيلا لها.
صفحة غير معروفة