يقول:
إننا نميز في الماضي ثلاثة أنماط من الصوفية: أولها تصوف الفرد وهو يبحث عن الله ويقترب منه، وهذا هو أشبه الأنماط بالصبغة الكنسية. وثانيها هو تصوف دعاة المعرفة (Gnostics)
ولا يحسن الخلط بينه وبين الزندقة التي ظهرت في العصور المسيحية الأولى، وهذا النمط من التصوف يتجاوز حياة الفرد ويشمل الكون والحياة الإلهية. وثالث الأنماط هو تصوف النبوات والتبشير بالرسالات المخلصة، وهو نمط يتعلق بالقيامة وما وراء التاريخ وعنده تبتدئ النهاية. وكلها - أي الأنماط الصوفية الثلاثة - لها آمادها وحدودها.
والعالم اليوم يدلج في الظلام نحو صوفية وروحانية جديدة، لا محل فيها لتلفت النظرة النسكية إلى الدنيا ولا لما توحيه تلك النظرة النسكية من العزلة واجتناب الجماعات والآحاد، ولا يبقى فيها النسك إلا كوسيلة أو رياضة على التطهر والصفاء، وهو يتجه إلى الدنيا ولكنه لا يعتبرها نهاية الغايات. فهو مسلك من النسك أشد اتصالا بالدنيا وأكثر تحررا منها في وقت واحد، أو هو مسلك نحو العمق الروحاني تقوى فيه دعوة الخلاص وتتجلى فيه معرفة صادقة أقدر على السلامة من أوهاق الغايات الدنيوية التي ابتلي بها المعرفيون الأقدمون. وتتلاقى ثمة أشتات النقائض المعذبة والنحل الموزعة؛ لأن الصوفية الجديدة أعمق من الديانات وينبغي أن توحدها وتؤلف بينها، ويومئذ تنتصر الصوفية على أباطيل الدعوات الاجتماعية المتشبهة بها، وتنتصر دولة الروح على دولة قيصر.
وقد أخرجت ألمانيا الحديثة فيلسوفا يضارع بردييف في دعوته «الوجودية» المتدينة، وهو كارل جاسبر (Karl Jasper)
الذي بدأ حياته الفكرية بمعالجة الطب النفساني، وهدته التجربة في علاج النفس إلى مذهبه الفلسفي القائم على تصحيح الروح بالإيمان.
وكلمة «المذهب» لا تطلق على فلسفة جاسبر إلا مجاراة للعرف في الكلام على آراء الفلاسفة. أما أصح الأوصاف لفلسفته فهو أنها تمهيد يصل منه كل طارق إلى مذهبه الذي يختاره، فهي أصبع نافذة تشير إلى الوجهة المستقيمة، وعلى من فهم الإشارة أن يتجه إلى قرارة نفسه فيحقق لها كيانها الذاتي (Selfhood)
الذي لا وجود لها بغيره. ومذهب الباحث على هذا الاعتبار هو ديانته الخاصة التي يستوحيها من بداهته ويظل دائبا على استيحائها طول حياته، فهو ما عاش طالب هداية يترقى فيها من طور إلى طور ومن طبقة إلى طبقة، ولا بد له من الوصول إلى هداه الجدير بسعيه متى توفر على هذا السعي صادق الرغبة في محاولاته صابرا على تكرار المحاولة كلما قصرت به عن الغاية، وخليق بكل من عرف حدود العلم وعرف ذاته في قرارها أن يلهم حقيقة الإيمان بالله ويبصر من حوله رموز هذا الإيمان وإشاراته في كل ظاهرة وخفية من ظواهر الوجود وخفاياه.
والفرق بين معرفة العلم ومعرفة الهداية الدينية أن معرفة العلم مستقلة عن شخص العالم قد يأخذها من غيره ويحملها إلى غيره ويتساوى فيها الآخذون والمانحون، وأما معرفة الهداية الدينية فهي جزء من حقيقة الإنسان لا تنفصل عنه ولا تخلو من مقوماته الشخصية، فلا تكفي فيها المعلومات والبراهين ولا تغني هذه المعلومات والبراهين عن معونة من بديهة الإنسان. إذ إن هذه البديهة جزء من الحقيقة التي يتم بها الإيمان، وليست الحقيقة كلها خارجية عالمية يتلقاها كاملة من غيره، سواء كان غيره إنسانا حيا أو مظهرا من مظاهر الكون بما حواه.
ونقص البراهين العقلية التي يستدل بها الفلاسفة على وجود الله أن البرهان قوة ترغم العقل على التصديق، ولا يأتي الإيمان بإرغام بل بطلب وشوق واجتهاد في التحصيل، فإن لم تشعر النفس بمكان الإيمان منها فلا محل للبرهان فيها. وإن شعرت بهذا المكان فالبرهان متمم لشيء موجود يعاونه ويزيد عليه.
صفحة غير معروفة