بدأت الفلسفة الوجودية (Existentialism)
في القرن التاسع عشر واستفاضت في القرن العشرين، ولا تزال أشهر المدارس الفلسفية في هذه السنوات لأنها تشتمل على مذهب من مذاهب السلوك، ويغلب على مذهبها الشائع في السلوك أنه يدعو إلى الإباحة وإطراح العرف والخلق وعقائد الأديان.
لكن «الوجودية» مدرسة واسعة النطاق ينتمي إليها المؤمنون والملحدون، وبين فلاسفتها أناس متدينون متصوفون لعلهم أكثر عددا من الوجوديين المنكرين، إذ ليست «الوجودية» في ذاتها دعوة مخالفة للدين ولا للعقائد الخلقية، وليس بين مذاهبها من وحدة مشتركة غير إنصاف «الشخصية الإنسانية» أمام الجماعة في عصر شاعت فيه قيمة الكثرة والزحام، وقلت فيه قيمة المزايا والصفات. وما عدا ذلك من التفصيلات فإنما يقع فيه الخلاف تبعا لموضوع النزاع بين الحرية الشخصية وطغيان الجماعات.
فالوجودي المتدين قد يؤمن بالله أشد الإيمان ولكنه لا يؤمن بالمراسم والشعائر ولا يذعن لسلطان الكنيسة ورجال الدين.
والوجودي الإباحي قد يكون من أقوم الناس خلقا وأطهرهم سيرة ولا تتراءى منه الإباحة إلا حين يتمرد على المحظورات التي لا حجة لها غير مجاراة العادة والاستسلام للتقاليد والموروثات.
والوجودي الذي يتهالك على الشهوات ويختار لنفسه ما يهواه يتعلل بحق الفرد أو بحق الشخصية الإنسانية في حياتها الخاصة، ولكنه لا يستطيع أن يجعل ذلك الحق قانونا ملزما لجميع الشخصيات، وإنما يدين به في سلوكه ولا يجهل المصير الذي قد يعرضه له ذلك السلوك، حيث يصطدم بالجماعة أو يصطدم بغيره من آحاد الناس.
وقد تسمى الوجوديون بهذا الاسم لأنهم يعتبرون وجود الإنسان مقدما على ماهيته، أو يعتبرون أن وجوده لذاته أهم من كونه واحدا من نوع متعدد الآحاد، فلا حقيقة للنوع الإنساني كله إلا بوجود هذا الإنسان وذاك الإنسان، ولا يصح لهذا أن يكون وجود النوع معطلا لاستقلال الشخصية الإنسانية وهي الأصل في الوجود.
فليس من الضروري إذن أن يخرج الإنسان على العقائد الدينية لأنه من الوجوديين، وقد تكون الوجودية الدينية - كما تقدم - أعم من الوجودية المنكرة أو الإباحية، ومن تدين من الوجوديين فهو لا يقنع بما دون الوصول إلى معتقده ببحثه ودأبه ونفاذه إلى ما وراء «النسخ المكررة» من عقائد المقلدين، ومنهم من يسمي عقائد المقلدين بالعقائد «المرجوعة» تشبيها لها بالثياب التي يلبسها غير واحد بغير قياس، وفيها ما فيها من البقايا والأدناس. •••
هذه الوجودية المتدينة متعددة بطبيعتها على أوسع ما يكون التعدد تحت عنوان واحد. لأنها من اجتهاد كل باحث بينه وبين ضميره، وهي أشبه ما تكون بالنحل الصوفية التي يهتدي فيها كل مجتهد بهديه. وقلما تتكرر على نحو واحد إلا في أعم المبادئ والغايات، وسنحاول في الخلاصات التالية أن نختار منها المذاهب التي يمثل كل منها وجهة متفقة بطبيعة التفكير والمزاج. •••
من هذه المدارس مدرسة بردييف (Berdyaef)
صفحة غير معروفة