فالحروب الكبرى في عصر الدراسات والمقارنات قد نبهت أذهان المفكرين إلى البحث في عواقبها وما فيها من المنفعة والضرر، وقد وسعت ميادين بحوثهم حتى شملت كل ما وعاه التاريخ من الحروب الغابرة والحاضرة، ورصدت كل ما يعزى إليها من المضار والمنافع، سواء منها ما يجمع عليه الباحثون وما يختلفون فيه.
وزبدة هذه الدراسات والمقارنات أن الحروب أفادت كما أضرت ووصلت كما قطعت، وقد يكون النفع فيها أكبر من الضرر والصلة فيها أبقى من القطيعة.
فأنفع المخترعات والمعارف العلمية قد جاء عرضا في طريق التنافس على صنع السلاح الفعال، ولولا حروب القرن العشرين لما بلغت الطيارة مبلغها من الإتقان، ولما تضافرت الجهود على فلق الذرة واستكناه أسرار المادة وخفايا الطبيعة.
وقد تعاقبت شكوى الحكماء وأنصار السلم من حروب الفرس واليونان وحروب الصليبيين وحروب العثمانيين وحروب الاستعمار ، ولولاها لبقيت كل أمة في عزلتها أو لبقيت القارة الأمريكية كلها حيث كانت مجهولة على سطح الكرة الأرضية.
وإذا كانت للحروب فائدة تقترن بالضرر، وهو كثرة الموت فيها، فهذا الضرر مفروغ منه؛ لأن حياة الكائن المحدود تنتهي بالموت لا محالة، ولا فرق بين موت الألوف معا وموت الآحاد متفرقين، فهو ضرر واقع على كل حال. ولكن منافع الحروب ليست بالمنافع الواقعة في جميع الأحوال.
في هذه المعاذير شيء من الجدة ينسب إلى القرن العشرين.
وقد ينسب إلى القرن العشرين أيضا شيء من الجدة في فهم المسئولية المطلقة والمسئولية المقيدة، يمتزج أحيانا بفهم القضاء والقدر وحرية الإرادة، وهما في الصميم من مشكلة الشر كما تعرض للعقول في العصر الحديث.
فالناس في هذا العصر قد تعودوا الكلام على مسئولية المحكومين كما تعودوا الكلام على مسئولية الحاكمين، فالحكومة مسئولة والأمة مسئولة، والراعي مسئول والرعايا مسئولون.
هذا خاطر أوشك أن يزحف من الوعي الظاهر إلى الوعي الباطن، فعود العقول أن تحمل على المخلوقات بعض المسئولية ولا تلقي المسئولية المطلقة على القدر.
وهذا الخاطر من شأنه كذلك أن يكفكف من شهوة المحاسبة ولجاجة الشكوى، فلا تجري المحاسبة في مجرى واحد، ولا يزال العقل الحائر يبحث عن المحكومين المسئولين كما يبحث عن الحكومة المسئولة.
صفحة غير معروفة