ولم يعهد مثل هذا التقارب بين الطبيعيين واللاهوتيين في القرن التاسع عشر، فكأنما انقضى ذلك القرن وبين العقيدة وقوانين الطبيعية والمادة حاجز قاطع أو حصن رادع. فلما أقبل القرن العشرون هبط الحاجز وانفتح باب الحصن، وقامت في مكانهما قنطرة تتصل من ناحية وتنفصل من ناحية، ولكنها صالحة لأن يعبر عليها، مع الجهد، كل من يشاء العبور.
مذهب التطور
اقترن مذهب التطور في النصف الأخير من القرن التاسع عشر باسمين عظيمين، هما اسم الفرد رسل ولاس واسم شارل داروين، وذاعت شهرة داروين بالمذهب حتى كاد أن ينسب إليه ويعرف به، فيقال مذهب داروين كما يقال مذهب التطور أو مذهب النشوء والارتقاء، وقد عدل أخيرا عن تسمية المذهب بالنشوء والارتقاء وبقيت الداروينية غالبة عليه.
ولقد هوجم المذهب كثيرا باسم الدين، وجعله بعضهم مرادفا للإلحاد والمادية، ومع هذا لم يكن والاس ولا داروين ملحدين معطلين، وكان والاس شديد الإيمان بالله، خامرته الشكوك في الديانة التقليدية ولم تخامره في الإيمان بالله وبحكمته، ومن كلامه ما يستدل به على تصديق المعجزات وخلود الإنسان.
أما داروين فلم يزعم قط أن ثبوت التطور ينفي وجود الله، ولم يقل قط إن التطور يفسر خلق الحياة، وغاية ما ذهب إليه أن التطور يفسر تعدد الأنواع الحيوانية والنباتية، وفي ختام كتابه عن أصل الأنواع يقول إن الأنواع ترجع في أصولها إلى بضعة أنواع تفرعت على جرثومة الحياة التي أنشأها الخلاق.
وقد قال والاس في كتابه عالم الحياة (The World of Life)
متحدثا عن عقيدة داروين: «إنه على ما يظهر قد صار إلى نتيجة واحدة»، وهي أن الكون لا يمكن أن يكون قد وجد بغير علة عاقلة، ولكن إدراك هذه العلة على أي وجه كامل يعلو على إدراك العقل البشري.
ثم عقب والاس قائلا: «وإنني لأولي هذه النظرة كل عطفي وشعوري، ولكنني مع هذا أرى أننا مستطيعون أن نلمح قبسا من القدرة التي تعمل في الطبيعة، يساعدنا على تذليل الصعوبة البالغة التي تحول دون العلم بحقيقة الخالق الأبدي الذي لا أول له ولا آخر.»
ولما سئل داروين عن عقيدته الدينية (سنة 1879) قال في خطاب إلى مستر فوردايس (Fordyce)
صاحب كتاب ملامح من الشكوكية:
صفحة غير معروفة