47

ويستحسن ككنبو هذا القرار الحكيم، ويحزنه أن ينفصل عن سيد صالح، أصبح صديقه الودود، بيد أن ما ساوره من لذة غدوه نافعا له، تغلب على ألم مغادرته له، ويتعانقان وأعينهما تفيض دمعا، ويوصيه كنديد بألا ينسى العجوز الصالحة مطلقا، ويسافر ككنبو في اليوم نفسه، وكان ككنبو هذا رجلا طيبا جدا.

ويمكث كنديد بسورينام أياما أخر، وينتظر عزم ربان آخر؛ ليأتي به وبالكبشين اللذين بقيا له إلى إيطالية، ويختار خدما، ويشتري كل ما يحتاج إليه في سفرة طويلة، وأخيرا يأتي لمقابلته السيد وندردندر المالك لمركب ضخم، فيسأله كنديد: «كم تريد لإيصالي إلى البندقية رأسا مع خدمي وأمتعتي وهذين الكبشين؟» فيطلب الربان عشرة آلاف قرش، ولم يتردد كنديد، ويقول الفطين وندردندر في نفسه: «وي، وي! إن هذا الغريب يعطي عشرة آلاف قرش دفعة واحدة! لا بد من أنه بالغ الغنى»، ثم يعود بعد هنيهة، ويخبر بأنه لا يستطيع السفر بأقل من عشرين ألفا، ويقول كنديد: «حسنا، ستقبضها.»

ويقول التاجر مخافتا: «ياه! إن هذا الرجل يعطي عشرين ألف قرش بسهولة، كالتي يعطي بها عشرة آلاف»، ويعود ثانية، ويقول: إنه لا يستطيع أن يأتي به إلى البندقية ما لم يدفع ثلاثين ألفا، فيجيب كنديد: «ستقبض ثلاثين ألفا إذن.»

ويقول التاجر الهولندي في نفسه مرة أخرى: «وي، وي! لا قيمة لثلاثين ألف قرش عند هذا الرجل، ولا ريب في أن الكبشين يحملان كنوزا واسعة، فلا أمعن في الإلحاف، ولنقبض ثلاثين ألف قرش أولا، ثم نرى.»

ويبيع كنديد ألماستين صغيرتين، فتساوي صغراهما أكثر مما طلب الربان، ويدفع إليه سلفا، ويرفع الكبشان إلى ظهر المركب، ويتبعهما كنديد بمركب صغير وصولا إلى السفينة الراسية، ولا يضيع الربان وقته، فيقلع

2

السفينة، ويرفع المرساة، وتساعد الريح السفينة، فلم تلبث أن توارت عن عيني كنديد الولهان الحيران، فيصرخ قائلا: «واها! هذه من الحيل الجديرة بالعالم القديم»، ويعود إلى الشاطئ متألما، ولا غرو، فهو قد أضاع في آخر الأمر ما يجعل له غنى عشرين ملكا.

ويذهب إلى القاضي الهولندي، ويقرع الباب بشدة عن اضطراب، ويدخل ويعرض مغامرته، ويرفع صوته بما لا ينبغي أن يصنع، ويغرمه القاضي عشرة آلاف قرش لما أحدث من ضوضاء، ثم يستمع له بأناة، ويعده بالنظر في قضيته فور رجوع التاجر، ويحمله عشرة آلاف أخرى من القروش نفقات للجلسة.

أورد هذا الأسلوب كنديد موارد اليأس، والحق أنه كابد من المصائب ما هو أشد إيلاما من ذلك ألف مرة، غير أن ما لقي من فتور القاضي والربان الذي سرقه أحرق كبده، وأغرقه في بحر من الملنخوليا السوداء، ويتمثل خبث الناس على أبشع صورة، ويتغذى بأفكار كئيبة، وأخيرا وجد مركب فرنسي على وشك السفر إلى بوردو، وبما أنه لم يكن عنده كباش محملة ألماسا يوسقه به، فقد استأجر حجيرة بمقابل مقبول، وقد أعلن في المدينة أنه يدفع إلى رجل صالح يرغب في السفر معه أجرة الانتقال مع الطعام وألفي قرش، على أن يكون هذا الرجل أشد الناس تبرما من حاله في الإقليم وأكثرهم تعسا.

ويحضر أمام جمهور من الطالبين لا يمكن أن يسعه أسطول، ويرغب كنديد في اختيار من ينم مظهره على مطلوبه، فيميز عشرين شخصا بدوا له أنساء، وهم الذين كانوا يدعون أنهم يستحقون التفضيل، ويجمعهم كنديد في حانة، ويقدم إليهم عشاء، على أن يحلف كل منهم أن يروي قصته بإخلاص، واعدا أنه يختار من يظهر له أنه أدعاهم إلى الشفقة، وأنه أكثرهم استياء من حاله بما في كل هذه الكلمة من معنى، وذلك مع الإنعام على الآخرين بقليل من النقد.

صفحة غير معروفة