الذين طغوا في البلاد * فأكثروا فيها الفساد * فصب عليهم ربك سوط عذاب * إن ربك لبالمرصاد ، ثم نقرأ في ختام سورة «الفجر» أمثلة من أخلاق السلوك التي أعوزت حضارات الفنون السابق ذكرها، فهم لم يكونوا يكرمون اليتيم، ولم يكونوا يطعمون المسكين، وكانوا يأكلون التراث أكلا لما، ويحبون المال حبا جما، وإذا أردت أن تضع تلك السيئات في مصطلح عصرنا، فقل إن تلك الحضارات لم تعن بإقامة التكافل الاجتماعي بين الناس، ولا هي عنيت بتنظيم «التأمينات» التي يطمئن بها أبناء الشعب على حياتهم وضرورات عيشهم.
من ذلك ترى «والخطاب موجه إلى صاحب الخطاب» أن الإسلام إنما هو جاء ليسد هذا النقص الخطير، وهو أن يقام مجتمع على ظواهر حضارية خالصة، دون أن يعنى بما يجب أن تكون عليه حياة الناس ، من تعاون وعزة نفس، وتلك هي مهمة «الأخلاق»، ومن هنا كانت الأخلاق هي أعمق الأسس التي بنيت عليها حضارة الإسلام، وعلى هذا الضوء نفهم قول رسول الإسلام - عليه الصلاة والسلام - أنه بعث ليتمم مكارم الأخلاق.
ونعود الآن إلى القضية الأساسية التي طرحها صاحب الخطاب في خطابه، وهي عن الدعوة إلى وجوب الدمج العضوي الذي ينبثق منه كيان حضاري ثقافي متكامل، يجمع بين تراثنا - ومداره أخلاقيات الإسلام - وروح العصر الحاضر - ومداره العلوم وما يترتب عليها من تقنيات - فهل ما يزال صاحب الخطاب يرى أن الجمع بين علوم حديثة من هناك، وأخلاق إسلامية من هنا ضرب من أحلام الحالمين؟ لا، بل إني لعلى اعتقاد متين بأن مثل هذه الإضافة لو استطعناها على الوجه السليم جاءت بمثابة إضافة تحدد دورنا الرئيسي في بناء حضارة العصر.
وقد تتساءل: أوليس لأصحاب حضارة العصر «أخلاق»، ربما كانت هي التي قصد إليها الشيخ محمد عبده حين قال عن القوم هناك إنهم مسلمون بغير إسلام؟ سؤال وجيه، والإجابة عليه هي أن أخلاقهم في صورتها الظاهرة قد لا يؤخذ عليها شيء في معظم الحالات، لكنها مقامة على أساس «المنفعة»، وهو أساس قد يبنى عليه الخير للإنسان تسعا وتسعين مرة، ثم تجيء المرة المائة كارثة قد تمحو الحضارة كلها محوا كالذي نراه الآن والعالم كله على شفا حفرة من نار! وتصحيح الوضع هو أن نستبدل بأساس «المنفعة» في البنية الأخلاقية أساسا آخر هو التعاطف بين الناس، وذلك هو ما جاء الإسلام ليرسي قواعده، فإذا كانت حضارة العصر، كما لخصها الدكتور ليفس، أستاذ الآدب في جامعة كيمبردج والناقد الذي أشهره نقده الأدبي في عالم الفكر الحضاري بصفة عامة، أقول: إذا كانت حضارة العصر كما قال عنها ليفس قائمة على «أخلاق بنتامية وتقنيات علمية» (وبنتام هو الفيلسوف الذي رد الأخلاق إلى منفعة)، فإن الصيغة الثقافية التي ندعو إليها هي: أخلاق التكافل والتعاطف مع تقنيات العلم، فهل ترى هذه الصيغة ضربا من الأحلام؟
ولقد ضربت في رسالتك «والخطاب موجه إلى صاحب الخطاب» ثلاثة أمثلة مما يدعو إليه تراثنا، تستشهد بها على استحالة الصيغة الحضارية التي ندعو إليها، فأرجوك أن تراجعها بينك وبين نفسك، لترى: أولا أنها مما يسهل جدا فهمها على أنها رموز تعني ما تعنيه. وثانيا أنها كما هي واردة في تراثنا، فهي واردة بذاتها في تراث شعوب الغرب، فأين موضع الغرابة إذن؟ وإذا كنت لم أذكر أمثلتك هنا إلا بالإشارة؛ فذلك لأني حريص على ألا أحدث في أذهان القراء بلبلة لا تنفع وقد تضر.
ولقد ختمت رسالتك يا أخي بسؤال عجيب، إذ سألت: من ذا الذي يجرؤ على معارضة وحي إلهي أو حتى على مناقشته؟ وأجيبك: أن من آمن بوحي إلهي، فهو بحكم ذلك الإيمان نفسه لا يخطر له أن «يعارض» أو أن «يناقش»، لكن إيمانه يوجب عليه أن «يفهم» مضمون الوحي الذي آمن به، ليهتدي بهديه وهو على وعي وبصيرة، وبالله يكون التوفيق.
الفصل الحادي والعشرون
كانت بالأمس شجرة خضراء
ولدت بالريف ونشأت فيه خلال السنوات الخمس الأولى، أو ما يقرب منها، ثم أخذت أعاوده كل عام في إجازة الصيف، وربما أضيفت إلى الصيف فترات أخرى من فصول أخرى إذا اقتضت ذلك ظروف الحياة. وكان بي شغف شديد لقضاء بضعة أيام عند أقارب في قرى مجاورة، ممن يملكون أرضا يزرعونها، ولست أنسى تلك النشوة الغامرة التي كانت تملؤني إذا ركبت النورج وهو يدور دائرته ليدرس القمح، وكان لأسرة الأقارب صغار في مثل سني؛ فكنا نمرح معا ونلهو، نشترك في أشياء وأنفرد وحدي بأشياء، فما كنت أحبه ولا يحبونه أن أصعد السلم الخشبي إلى سطح بناء صغير ذي غرفتين، كانت إحداهما مخزنا لأدوات منوعة من فئوس ومحاريث وما إليها، وكانت الأخرى جرنا يخزن فيه التبن والدريس، وأما سطح ذلك البناء فكانت تعلوه كرمة تظله، وعلى ذلك السطح المفروش بكرمة العنب كنت أستلقي على كليم هناك، وأظل وحدي ساعات تطول أحيانا ما طالت ساعات الضحى، أو ساعات العصر، وقد تقصر إذا أراد الجمع رواحا مبكرا، وأما ما كنت أشترك فيه مع أندادي من الصغار، فهو الجلوس تحت شجرة كثيفة الظل لكثافة فروعها وأوراقها، وكانت قريبة من ذلك البناء الصغير الذي أشرت إليه.
كان رب الأسرة على شيء من الجهامة والعبوس ، ولم يكن يوجه كلماته إلى أبنائه الصغار إلا وهي مشحونة بما يشبه الغضب، أما أنا فقلما توجه إلي بحديث، وإذا فعل ألبس شفتيه ابتسامة حتى يفرغ من حديثه المختصر، ثم يعود فيخلع تلك الابتسامة المصنوعة عن شفتيه، ولم أكن قد بدأت زيارتي الموسمية لتلك الأسرة إلا بعد أن كان الرجل قد تزوج زوجته الثانية وأنجب منها طفلين، وكانت الزوجة الأولى هي قريبتي، وأبناؤها هم الصغار الذين كنت أرافقهم سارحا إلى الغيط وعائدا إلى الدار.
صفحة غير معروفة