كانت عبارة «رأس الحكمة مخافة الله» هي أحد النماذج التي أجريت قلمي لأحاكيها في درس الخط، فوعتها الذاكرة من تلك السن الباكرة، لكن كم وعى العقل من معناها عندئذ يا ترى؟ لا أحسبه قد وعى إلا قطرة يسيرة من الإناء المليء، فما أكثر ما حفظت ذاكرات الصغار مما حفظوه، ولكنها في ذلك لم تكن قد حفظت إلا رنين الألفاظ، ثم تجيء الأيام بعد ذلك مترعة بخبراتها، هذه خبرة قد ملأت النفس بالحسرة والأسى، وتلك خبرة أخرى قد هزت النفس بالنشوة والفرح، وهكذا تتوالى الخبرات مع الإنسان الواحد، بالنسبة إلى اللفظ الواحد، حتى يصبح ذلك اللفظ مع مر الزمن وكأنه الوعاء قد امتلأ جوفه بأطياف المعنى وظلاله، وهذا هو نفسه ما يجعل اللغة كائنا حيا كأي كائن حي؛ لأنها تنمو أو تذبل بحسب غزارة أو ضحالة الخبرة عند المتكلمين بها، ثم كان ذلك هو نفسه الذي جعل الترجمة من لغة إلى لغة أخرى ترجمة تصون المعنى المنقول بكل امتلائه ضربا من المحال، اللهم إلا في مجال العلوم ذات المصطلح العلمي المحدد الدقيق .
لا، بالطبع لم أكن قد أدركت من عبارة «رأس الحكمة مخافة الله» عندما صادفتني لأول مرة في كراسة الخط، وأنا في نحو الثانية عشرة من عمري، إلا رنين لفظها، وإن لفظها لذو رنين لم يزل حتى هذه الساعة يهز نفسي بحلاوته، ثم جاءت أعوام الزمن تتوالى عشرات بعد عشرات، وكثرت فيها المواقف التي تستوجب أن يستحضر الإنسان فيها ضرورة أن يخشى الله فيما يقوله وما يعمله، وأن يخشاه فيما لم يقله ولم يفعله، في حين كان الواجب الخلقي يستلزم أن يقال أو يعمل، فكنت في كثير من تلك المواقف أجد صديقتي القديمة، أعني تلك العبارة الجميلة في جرسها الغزيرة في معانيها، وقد وثبت إلى الذاكرة من تلقاء نفسها، وكانت - بالطبع - كلما حضرت ازدادت بالموقف الحي الجديد وضوحا.
ولعل أول ما يتبادر إلى الذهن من معاني «مخافة الله» هو خوف الإنسان من عذاب النار إذا هو اقترف إثما، ولهذا وجب عليه الحرص، فلا تزل قدماه في خطيئة، لينجو بنفسه من عذاب أليم، وواضح أنه كلما أوشك الإنسان في موقف ما أن يزل في خطيئة، فأحس خشية الله، فامتنع عن اقتراف الإثم، ازدادت حاسة الفضيلة عنده إرهافا، حتى يجيء له اليوم الذي يصبح الحكم الخلقي الصحيح عنده عادة مألوفة، وكأنها جزء من طبعه الفطري الذي ولد مزودا به، وتلك هي «الحكمة» بل ذلك هو رأسها.
وتمضي بي الأيام، وتكثر في طريقي مواقف الحياة وأزداد بكل ذلك خبرة لا أقتصر فيها على ما قد أكتسبه من حياتي العملية اكتسابا مباشرا، بل أضيف إليها ما قد يكون أهم منها وأغنى، وهو ما أقرأ عنه من خبرات الآخرين، وبين هؤلاء الآخرين من هو صاحب موهبة تعلو به فترفعه - في هذا الصدد - فوق رءوس البشر من عامة الناس، بل ومن الصفوة المصطفاة من هؤلاء العامة، فلقد صادفت من هؤلاء العمالقة الجبابرة الذين أنعم عليهم ربهم بحاسة خلقية تطير بهم إلى الحكمة في أعلى ذراها، بلمعة من لمعات البصيرة الصافية النافذة إلى الحق في صميم جوهره، ومن هؤلاء من قرأت له وهو يعوذ بربه من ضعف في نفسه قد يميل به نحو أن يفعل الفضيلة ابتغاء ثواب الآخرة أو اجتنابا لعذابها، فالفضيلة عند هؤلاء هي الفضيلة واجبة الأداء في ذاتها قبل أن يكون لها جزاؤها. نعم، إن ثواب الآخرة وعقابها حق لا جدال فيه، لكنه حق يضاف إلى حق آخر، وهو أن الفضيلة خير في ذاتها، وأن الرذيلة شر في ذاتها؛ ولذلك كان فعل الفضيلة يحمل ثوابه فيه، وفعل الرذيلة يحمل عقابه فيه، ثم يضاف إلى الثواب ثواب الآخرة، وإلى هذا العقاب عقاب الآخرة، يمكن توضيح ذلك بمثل هو أن ينجح ولدك في الامتحان فينتج عن نجاحه نقله إلى فرقة أعلى، ثم تزيده أنت فتكافئه على نجاحه ذاك، أو أن يرسب فينتج عن رسوبه حرمانه من النقل إلى فرقة أعلى، ثم تجيء أنت فتضيف على ذلك الحرمان حرمانا آخر من عندك. مخافة الله تصنع من صاحبها ذا حكمة، أي تجعله ذا قدرة تلقائية على تمييز الحق من الباطل بلمحة مباشرة، أو قل إنها في هذه الحالة لمعة تلمع بها البصائر وذلك هو نفسه ما تعنيه بكلمة «الضمير»، فضمير الإنسان - كما هو واضح من اسمه - قوة «مضمرة» في جوفه يفرق بها بين الصواب والخطأ، فحتى الذي يرتكب الخطأ في سلوكه يعلم في دخيلة نفسه أنه قد ارتكب خطأ، فليس التمييز بين الصحيح والفاسد في أمور الأخلاق شيئا يحتاج إلى علم غزير لمعرفته، بل هو مرهون بتربية تبث في الناشئ خشية الله كلما هم بفعل لا يجوز أداؤه، سواء وقف الإنسان من تلك الخشية عند الرغبة في ثواب الجنة والرهبة من عذاب النار، أو أضاف إلى ذلك شعورا هو أن الصالح ثوابه فيه والفاسد عقابه فيه، ففي كلتا الحالتين يتحقق للإنسان مرشد باطني هو «الضمير»، ولكنه في الحالة الثانية يكون أقوى حياة وأفعل أثرا منه في الحالة الأولى، إنه في الإنسان يشبه أن تكون دفة السفينة خافية عن الأبصار، لكنها موجودة تحرك السفينة إلى حيث تتحرك، وتلك الدفة الخافية في تركيب الإنسان هي «حكمته» التي تتولد في نفسه من خشية ربه كلما وسوس له ضعف نفسه أن يقترف إثما، ومن الإثم أن يسكت عن الحق، حتى يغمره الباطل بظلامه.
ودفة الإنسان تلك، ليست من خشب ولا من حديد، بل هي مجموعة معايير بثت في نفسه يقيس بها السلوك الواجب إزاء كل موقف يعرض له في الطريق، إنها مجموعة مبادئ وهي مبادئ - لحسن الحظ - لا يكاد يختلف فيها إنسان عن إنسان مهما اختلفا بعد ذلك علما وثقافة، بل مهما اختلفت بينهما العقائد ذاتها، إن الظالم لا يعلن في الناس أنه ظالم - بل يسمي ظلمه عدلا - لعلمه أن العدل هو مبدأ من تلك المبادئ. انظر إلى جماعة اللصوص (في قصة سرفانتيز) حين اختلف بعضهم مع بعض على تقسيم ما سرقوه فنادوا عابر سبيل وطلبوا منه أن يقسم ما معهم بينهم بالعدل، إنهم لصوص ومع ذلك بحثوا عن «العدل».
ومن تلك المبادئ الإنسانية التي لم يختلف عليها أحد مع أحد مبدأ أن يكون الإنسان حرا، وحتى لو أبت على بعض الناس نفوسهم الخسيسة أن يعيشوا أحرارا، فإنك لتراهم على علم بأن حرية الإنسان هي مبدأ يوجه الضمير، لكنهم قد يعتذرون عما يسود حياتهم من طغيان بقولهم إن الضرورات العملية هي التي قضت بكبت الحرية «مؤقتا» إلى أن يستتب الأمن وتستقر الأمور، أو هم يعتذرون بأي عذر آخر من هذا القبيل، لكن أحدا من الناس لا يجرؤ على أن ينكر حق الحرية على الناس؛ لأنه حق فرضته الديانات أولا، ونادت به التشريعات البشرية ثانيا، وحتى إذا رأيت في العقائد والتشريعات ما قد يبدون انعداما للحرية بمعناها المعروف فيكون المضمر في ثنايا الموقف أن ما هو قائم ليس هو المثل الأعلى، وأن ذلك المثل الأعلى سيتحقق للإنسان عندما يصبح الإنسان كفئا له، قادرا على حمل تبعاته.
وللحرية صور كثيرة: الحرية الشخصية، وحرية العقيدة، والحرية السياسية، وحرية الفن ... وغير ذلك، لكننا نقصر هذا الحديث على حرية الفكر، وهي حرية كغيرها من ضروب الحرية لا بد لها - بحكم طبيعتها - أن تتقيد بقيود العقل نفسه، ومن أهمها أن العقل لا يستطيع أن يتحرك في طريق استدلالاته من فراغ، أعني من لا شيء؛ إذ لا مناص له حين يستدل من أن يجد الأصل الذي يستدل منه، وهذا الأصل يتغير في نوعه وطبيعته من موضوع إلى موضوع، فهنالك المجال الذي تكون نقطة الابتداء فيه معلومات أولية جمعت من مشاهدات الحواس أو من تجارب المعامل، وهناك المجال الذي تكون نقطة الارتكاز فيه فروضا وضعت على سبيل الافتراض بأنها ربما تولدت منها نتائج صالحة للتطبيق، وهنالك المجال الذي يبدأ فيه الباحث رحلته من نص مكتوب، وهكذا وهكذا، وأيا ما كان الأصل الذي يضعه العقل بادئ ذي بدء ليرتكز عليه في استدلاله، فهو قيد لا بد للعقل أن يتقيد به وإلا لما كان له فكر على الإطلاق، أضف إلى ذلك تلك القيود المنهجية التي يلتزمها العقل في انتقاله من خطوة في بحثه إلى الخطوة التي تليها، فأين هي - إذن - «حرية» الفكر ما دام العقل مكبلا في سيره بقيوده؟ الجواب على ذلك هو أن تلك الحرية كامنة في أن أحدا مهما بلغ سلطانه لا يجوز له أن يفرض على الباحث نتيجة معينة، أو فكرة بذاتها مقدما دون أن تكون تلك النتيجة أو هذه الفكرة قد نتجت عن عملية التفكير العقلي نفسها والتي لا يقيدها إلا قيود «العقل» ذاته، ولاحظ هنا كلمة «عقل» هذه لأن معناها اللغوي هو «قيد»؛ لتعلم أن حرية الفكر مقيدة بقيود نابعة من طبيعتها.
أقول إن للحرية صورا كثيرة، وإنني في هذا الحديث سأقتصر على إحدى تلك الصور، وهي حرية الفكر، التي أشعر بأنها في مصر - وفي الوطن العربي كله - مقيدة بغير قيودها الطبيعية التي ذكرت طرفا منها؛ إذ هي معرضة للتدخل المسبق من ذوي النفوذ وذوي المصالح في المجالات المختلفة، فهؤلاء كثيرا ما يفرضون - مقدما - أفكارا معينة لا بد للمفكر أن ينتهي إليها بعملياته الفكرية وهم لا يقفون من الفكر الحر موقف الحياد، إلا إذا كان موضوع البحث بعيدا عن مجالاتهم التي تتصل بأشخاصهم وبمصالحهم.
وإن ذلك لنقص خطير في حياتنا العقلية، وتتبدى لنا خطورته إذا علمنا أن مصر - بصفة خاصة بين بلدان العالم العربي والعالم الإسلامي - قد كانت أسبق من سواها في العصر الحديث إلى الأخذ بفكرة الحرية في كثير من صورها ومعانيها، فهي - مثلا - سباقة إلى المطالبة بالحرية السياسية وبالحرية الاجتماعية وإلى حرية الأدب والفن، وكان الأمل ألا تستثني أنواعا معينة من صور الحرية لتضع أمامها العقبات.
وفي هذه المناسبة أذكر أن الأديب الإنجليزي ج. ب. بريستلي كان قد أصدر في أوائل الخمسينيات - على ما أظن - كتابا في تاريخ الأدب كنت قد اطلعت عليه فوجدته قد انتهج منهجا متميزا، وهو أن يكتب ذلك التاريخ الأدبي من خلال انطباعاته هو التي انطبع بها في قراءاته الواسعة، فجاء تاريخه أقرب إلى مذكرات شخصية يعلق بها على الحياة الأدبية في مختلف العصور، والعصر الحديث منها بصفة خاصة، والمهم الذي من أجله أذكر هذا الذي أذكره هو أنني وجدته يستخدم مفتاحا ليفهم به روح الفترة المعينة التي يؤرخ لها، استوقف نظري بطرافته وفائدته، وهو أن يبحث في تلك الفترة عن الفكرة أو المعنى أو اللفظة التي يجدها أكثر من سواها دورانا على أقلام الكتاب والشعراء، فتكون هي التي تشير إلى أبرز ما كانت تلك الفترة المعينة تهتم به، فلما صادفت تلك الطريقة التي اتبعها بريستلي في كتابه ذاك (وبالمناسبة لقد مات بريستلي صيف هذا العام 1984م عن تسعين عاما) أخذت نفسي عندئذ بتطبيق الطريقة نفسها على حياتنا الفكرية في مصر في تاريخها الحديث، وقمت ببعض المراجعات لطائفة كبيرة من أصحاب القلم عندنا منذ رفاعة رافع الطهطاوي وإلى الوقت الذي قمت فيه بتلك المراجعة، وكان ذلك في أواخر الخمسينيات على أرجح الظن، فلم ألبث أن رأيت في أجلى جلاء أن فكرة «الحرية» على إطلاقها هي التي ظفرت بالنصيب الأكبر، فما من كاتب أو شاعر أو مفكر في مجال السياسة أو التقدم الحضاري أو غير ذلك إلا وقد سيطرت فكرة الحرية على عقله وشعوره . وأعتقد أن ما يجوز تسميته «بالمنطقة المحرمة» في عالم الفكر والأدب قد أخذ يضيق حتى أصبحت تلك المنطقة المحرمة على حرية الأديب والمفكر غير ذات وزن يعتد به خلال العشرينيات والثلاثينيات التي نعدها فترة نهوضنا الحقيقي، لكن حدث بعد ذلك ما شجع أصحاب المصالح في المنطقة المحرمة أن أخذت تلك المنطقة تتسع وتتسع حتى شملت أطرافا من حياتنا الأدبية والفكرية، لم يكن يحق لها أن تشملها ولكنها فعلت.
صفحة غير معروفة