تلك الحرية كلها مكسوبة للإنسان، مرتفعة به عن سائر الأحياء إلى فلك أرفع وأسمى، وهي حرية مرهونة بفطرته البشرية أولا وبما هو في مقدور تلك الفطرة من «علم» بطبائع الأشياء، ولقد ألفنا جميعا ألا نفهم من حرية الإنسان إلا الجانب السلبي وحده، دون جانبها الإيجابي الذي بفضله تبنى الحضارات وتقام الثقافات، وجانبها السلبي هو المرحلة الأولى التي تفك فيها القيود، ويصبح الإنسان بعد ذلك «حرا» في أن ينطلق إلى حيث شاء، وها هنا يأتي الجانب الإيجابي من الحرية، فإلى أين ينطلق، وكيف ينطلق، وعند هذه النقطة تأتي أهمية المعرفة بطبائع الأشياء، وعندما أمرنا في كتاب الله أن نضرب في مناكب الأرض، وأن نتفكر في خلق السموات والأرض، كان ذلك التوجيه الإلهي بمثابة إرشادنا إلى الشرط الأساسي الذي بغيره لا تتحقق للإنسان حريته بمعناها الإيجابي البناء. وتلك الحرية - بمفهومها السلبي والإيجابي - هي بدورها المقوم الأساسي لجوهر الإنسان وكرامته، وهل تكون مسئولية خلقية بغيرها، أو يكون للإنسان بدونها حضارة تقام بعلومها وفنونها ونظمها وسائر عناصرها؟
مغامرة الإنسان في مواجهته للمجهول، وهتك أستاره وكشف أسراره، ثم تسخيره وتسييره إلى حيث أراد له الإنسان أن يسير، إنما هي صميم الصميم من حرية الإنسان، وقد يغنى فيه أفراد من الناس عن أفراد؛ لأن الناس متفاوتون في القدرات، وتلك المغامرة في مواجهة المجهول قدرة قد توهب لإنسان ولا توهب لآخر، لكنها مع ذلك قدرة يجب أن نجعلها في طليعة القدرات التي نربي أبناءنا على اكتسابها، فالموهبة دائما تكون هي الأساس، ولا بد لها من شحذ وتدريب وتنمية حتى تثمر، وأحسب أن ليس في البشر جميعا إنسان خلت فطرته من هذه الموهبة، أو تلك، لكنه الخوف من الحرية الذي يصاب به من يصاب فيشل عن المغامرة ملقيا بالعبء على سواه، وهذا السوى قد يحيل المهمة بدوره على سوى آخر، وهكذا قد تتسع الدائرة حتى تصبح شاملة للأمة كلها أو معظمها، وأعتقد أن هذه الحالة المتواكلة هي جزء مما أصابنا منذ القرن السادس عشر، وحتى تباشير النهضة الجديدة في أوائل القرن التاسع عشر، حيث أخذت الصحوة تعلو بنا لتردنا إلى ما كنا عليه في تاريخنا كله، من إبداع حضاري لم يفتر قط بمثل ما أخذه الفتور - بصفة عامة - في المرحلة الأخيرة، فها هنا غمرتنا حضارة الغرب، فلم نكد نأخذ منها بنصيب حتى أوهمنا من أوهمنا بأنها ليست منا ولا نحن منها، فسرى في أوصالنا «خوف» من المغامرة، خوف من الحرية، خوف من الإبداع الذي نشارك به سائر الدنيا التي تقدمت.
وقد تعجب من كلمة «خوف» في هذا السياق، الذي يسوقها منسوبة إلى «الحرية» كيف هذا؟ من ذا الذي يخيفه أن يكون حرا؟ ألسنا نثير الثورة تلو الثورة لنظفر بالحرية في جوانبها المتعددة؟ وهذا كله صحيح، لكننا لم نكد نظفر بجانب منها، حتى رأينا كثرتنا الغالبة قد استثقلت عبئها، فأحالت ذلك العبء إلى أفراد منا قليلين، ليكونوا هم الأحرار أصالة عن أنفسهم، ونيابة عن بقية الشعب، وأقول ذلك راجيا أن يفهم بالمعنى الحضاري العام، وألا يقصر على جانب السياسة وحدها؛ لأن في الحضارة عناصر كثيرة أخرى غير السياسة، ففيها علوم تقتضي منهجا خاصا في النظر إلى الأشياء، فإذا كانت العلوم قد حصلها نفر وتأثر بمنهاجها، فهو نفر، أقل من القليل، ولن يكون لنا نهضة حقيقية إلا إذا تسربت الرؤية العلمية الجديدة قطرة قطرة، حتى تعم الشعب كله بدرجات، وتصبح طابعا يميزه عن نفسه وهو في مراحل تاريخه الماضي.
وفي الحضارة فنون وآداب وفكر، ولكل ذلك في حضارة عصرنا مذاق خاص يميزه عن أشباهها في المراحل الحضارية السابقة، وفي هذا المجال - كما في مجال العلوم ومنهاجها - اقتصر الأمر على فئة قليلة، قليلة جدا، هي التي أتاحت لها الظروف أن تتذوق روح العصر في تلك الجوانب المذكورة، ومرة أخرى أقول: إنه لن يكون لنا نهضة حقيقية إلا إذا تقطر الذوق الجديد قطرة قطرة حتى يعم الشعب كله بدرجات، وإلا لظل هذا الشعب غريبا في دنياه، غربة أهل الكهف حين استيقظوا وساروا في شوارع المدينة، فإذا كل شيء حولهم ينكرهم، وإذا هم ينكرون كل شيء، على أني أحب أن أوضح هنا بأن المقصود بهذا ليس هو أن نحاكي سوانا محاكاة تستغرق ذواتنا، بل المقصود هو أن ندخل مع حضارة العصر وثقافته دخول من يقبل ويرفض ويعدل، أي دخول من يحاور ويجادل ويبدع، لكن هذا كله يتطلب أولا إلماما بعصرنا وما يدور فيه لا إلمام من يسمع الأخبار وكأنها ليست من شأنه هو، بل إلمام من يتبنى القضية لتكون جزءا من حياته، مؤيدا أو مهاجما، وقد فعل شيئا كهذا جمال الدين الأفغاني في «الرد على الدهريين»، وسواء أصاب أو لم يصب فيما أورده من أفكار في ذلك الكتاب، إلا أنه لم يكن ليكتب سطرا منه إذا لم يكن قد ألم بقدر مستطاعه بتيارات الفكر في أوروبا في عصره، وفي ألمانيا بصفة خاصة، وكذلك فعل شيئا كهذا الإمام الشيخ محمد عبده، حين كتب رده على هانوتو، وحين زار فيلسوف بريطانيا إذ ذاك «هربرت سبنسر» أثناء زيارة الإمام لتلك البلاد؛ لأنها لم تكن زيارة تفريج، بل كانت زيارة تتيح الفرصة لحوار يدور بين ثقافتين، وفعل شيئا كهذا أيضا كثيرون جدا من أعلامنا، فأين هؤلاء جميعا ممن ينادون اليوم بالفزع مما أسموه بالغزو الثقافي؟ وأين هؤلاء جميعا من ذلك المسئول الكبير الذي سمعته يقول: إن في الدنيا الآن حضارة جديدة، وعلينا أن نحمل شبابنا على حفظ القرآن الكريم ليقاوموا به تلك الحضارة؟! إلا أنه الخوف من مواجهة المجهول، الخوف من الغرفة المحرمة في القصر المسحور، ومع الخوف من مغامرة مع المجهول حتى ينكشف يجيء الخوف من أن نكون أحرارا، وكان كل نصيبنا من الحرية هو أن نهتف باسمها في المظاهرات، ثم نأوي إلى مخادعنا لنغط في النوم!
الحرية مسئولية وفكر وإرادة، لأن يكون الإنسان حرا لا بد أن يضطلع بعمل يؤديه أداء القادر الماهر العارف بأسرار مهنته، وهو حر بمقدار ما يكون في وسعه أن يسيطر على مادة مهنته، حرية الطبيب هي أن يعرف أين يكون شفاء مريضه وكيف، حرية القاضي هي أن يعرف مسالك القانون وحناياه، ليعرف أين يقع منها من قدموه إليه ليحاكمه، وهكذا يكون معنى الحرية في كل ميدان من ميادين العمل، الإنسان الحر «يعرف» فيتصرف على هدي معرفته تصرفا مؤديا به إلى تحقيق غايته، وغير الحر لا يعرف أنه يقف أمام وقائع الحياة العملية فاغرا فاه في ذهول التائه الذي ضل الطريق.
ونحن إذ نجعل الحرية بمعناها الإيجابي، مرهونة بقدرة العامل على معالجة موضوعه بحيث ينتهي به إلى غاية يريد تحقيقها، نود لفت الأنظار إلى نقطة لها الأهمية الكبرى في حديثنا هذا، وهي أن روح العصر تقتضي أن يكون معظم الفكر، ومعظم العمل، منصبا على «أشياء» والقليل من ذلك الفكر أو العمل، هو الذي نتجه به إلى «كلمات» إلا أن تكون تلك الكلمات وثيقة الصلة بمواقف عينية فيها مواجهة لأشياء فيقتضي الأمر أن نكون على معرفة علمية دقيقة بطبائع تلك الأشياء، فشعورنا بالحرية عندما نغالب قفر الصحراء حتى نرغمها على أن تخضر بالزرع، أغزر جدا من شعورنا بالحرية حين نبذل الجهد في حفظ صفحة كتبها سوانا، حفظا لا يحمل في طيه مفتاحا نغزو به الأشياء العصية إذا استعصى علينا تشكيلها وتسخيرها لصالح الإنسان.
ولم تكن الحضارات التي شهدها التاريخ كلها سواء في الطابع العام الذي يميزها، من حيث رجحان القيمة في كفة «الكلمة» أو رجحانها في كفة «العمل» فانظر - مثلا - إلى الحضارة المصرية القديمة في عصر الفراعنة، بالمقارنة مع حضارة اليونان القديمة، تجد الأولى أميل إلى العمل في طابعها، العمل في ميادين الصناعة والبناء والنحت والتصوير والحرب، بينما الثانية أميل إلى «الكلمة»، ففيها فلسفة وفكر نظري أكثر جدا مما كان فيها من صناعة وبناء إلى الدرجة التي لا يفوتنا معها أن نلحظ أمرين: الأول هو أن المصري القديم حين عرف كيف «يعمل» لم يهمه كثيرا تنظير ذلك العمل تنظيرا يخرج ما كمن فيه من مبادئ وقوانين وأفكار، حتى لقد جاء اليوناني بعده، واهتمامه الأكبر هو مثل ذلك التنظير، وكان مما حاول استخراج الجانب النظري فيه هو بعض ما كان شاهده مما يصنعه المصري، مثال ذلك ما رآه فيثاغورس اليوناني عندما كان المصري يريد أن يرسم على الأرض زاوية قائمة تحدد له ركن الأرض الزراعية التي في حوزته، فكان يأتي بحبل فيه اثنتا عشرة عقدة، على مسافات متساوية بين العقدة والعقدة، ثم يجعل ثلاثا منها في جانب، وأربعا في جانب، حريصا على أن يرى أن طرفي الحبل قد تلاقيا في جانب ثالث، فعندئذ تكون زاوية الركن بين الجانبين الأولين زاوية قائمة، ولم يهتم المصري بعد ذلك بأن يبحث بحثا نظريا يعرف به لماذا نتجت زاوية قائمة بهذه الحيلة العملية، أما فيثاغورس فقد جعل هذا البحث الرياضي النظري مهمته، حتى أقام البرهان المعروف الخاص بالمثلث القائم الزاوية، حين يكون المربع المقام على وتر المثلث مساويا لمجموع المربعين المقامين على الضلعين الآخرين. وعناية اليونان القدماء بالفكر الفلسفي معروفة؛ إذ يكفي أن يكون منهم سقراط وأفلاطون وأرسطو خلال عصر واحد لم يزد على مائة عام. أما الأمر الثاني مما أردت ذكره في تلك المقارنة بين حضارة الكلمات وحضارة الأفعال، فهو أن اليونان قد ذهبوا في مبالغتهم نحو تفضيل الفكر النظري على الفعل، حتى جعلوا «العمل» مما يشين أفراد الطبقة الأرستقراطية، فهؤلاء إنما خلقوا للتفكير النظري، وأما من دونهم فيختصون بالأعمال التي يستخدم فيها الجسم، والفرق بين هؤلاء وأولئك هو نفسه الفرق بين الروح والجسم في المنزلة.
وجاءت الحضارة الإسلامية مزيجا من كلمة وفعل، إلا أن كفة الكلمة راجحة، ويكفي أن يكون أخص خصائص العربي هو الشعر، كما ورد عند الجاحظ وهو يتناول الحضارات المختلفة بالمقارنة، وإبراز الطابع المميز لكل حضارة منها. ولقد أغرى هذا الفارق بين الكلمة والفعل بعض الباحثين في خصائص الحضارات أن يجعلوها نوعين: حضارات مدارها «أخلاق»، وأخرى مدارها «أفعال» وهو تقسيم لا ينفي - بالطبع - أن يفيد أصحاب النوع الأول من إنتاج النوع الثاني، وأن يأخذ أصحاب النوع الثاني مبادئ السلوك من أصحاب النوع الأول!
وفي ضوء هذا الذي أسلفته أقدم الصورة التي أتصورها وأتمناها لحياتنا الثقافية في اتجاهها العام، ولطالما عرضت هذا التصور فيما كتبته؛ لأنني مؤمن بصوابه، لكنني هذه المرة أعرض تصوري مقرونا بما حدث قبل ذلك في تاريخ الفكر الإنساني وتطوره، فنحن في موقفنا الحاضر نواجه حضارتين وما يلحق بكل منهما من ثقافة سايرتها، إحداهما حضارة ورثنا أصولها عن آبائنا، وكان محورها الثقافي هو «الكلمة»، وهي ثقافة - كما قلنا - طابعها أخلاقي، وذلك لأن محورها «مبادئ»، وأما الحضارة الأخرى التي تواجهنا فهي حضارة الغرب في عصرنا الحاضر، وإنها لتختلف عن حضارتنا الموروثة اختلافا جوهريا، في أساسها وفي مدارها معا، فأساسها ليس «الكلمة» بل «الشيء» ومدارها ليس «المبادئ» مصوغة في ألفاظ، بل «العلم» متمثلا في منهجه أولا، وفي قوانينه التي تصور مسلك الأشياء ثانيا، وإذا كانت «الكلمة» في الثقافة الأولى قد بلغت ذروتها في الشعر فنا وفي مبادئ الأخلاق سلوكا، فإن معالجة «الأشياء» في الثقافة الثانية قد بلغت ذروتها في الأجهزة العلمية والآلات.
ويبدو واضحا أنه لا بد لنا من الجمع بين أصول الحضارتين معا في صيغة واحدة، هي نفسها الصيغة التي ترسم لنا خطة السير في ثقافتنا الجديدة، فنجمع بين الكلمة والجهاز، أي بين مبادئ الأخلاق كما وردت في العقيدة الدينية، وقوانين العلم الحديث بما تتضمنه من منهج جديد للنظر، وليس هذا الجمع مستحيلا، وإن لم يكن يسيرا، ولقد تحقق هذا النموذج في بعض أعلامنا، كما تحقق في بعض مواقف حياتنا، وفي هذا السياق أذكر المثل التاريخي الذي يوضح مثل هذا الجمع، وهو موقف أوروبا في نهضتها؛ إذ وجدت نفسها أيضا بين حضارتين وما يلحق بكل منهما من ثقافة تلائمها، فمن جهة كان بين يديها تراث اليونان القدماء، وهو فلسفي أخلاقي في المقام الأول، مضافا إليه عقيدة دينية استولت وحدها على معظم الحياة الفكرية في العصور الوسطى، ثم كان بين يديها (أعني أوروبا في نهضتها) حركة جديدة قوية، اتجهت بكل اندفاعها نحو الطبيعة تقتحمها برا وبحرا وسماء، فنتج عنها علم جديد مصحوب بمنهج للنظر والبحث جديد، فما لبثت أوروبا أن دمجت التيارين في نهر واحد هو ما يسمى بأوروبا الحديثة!
صفحة غير معروفة