وهذا - في عرف المصريين - نوع من الجنون المقيت، فالخناقات حين تنشب بين خصمين، وتتركز فيهما فقط ويصفيانها معا، تعتبر نوعا من الجنون أو من الشذوذ. فالخناقة عند المصريين ليست نوعا من الدراما الشخصية، ولكنها - إن آجلا أو عاجلا - لا بد أن تتحول إلى مسرحية، أي إلى محاكمة، أي إلى قضية يصبح فيها الجمهور عاملا رئيسيا ومؤثرا، كالقاضي سواء بسواء. ويصبح فيها التأثير في الجمهور - أي في ذلك المحترم القاضي - مسألة ذات أهمية بالغة. ومن أجل هذا تنشأ الخناقات في مصر ليس لينتصر طرف على آخر، وإنما تنشأ الخناقات بهدف مسرحي محض، أي تنشأ الخناقات درامية منذ البداية، عاقلة جدا ومتزنة منذ البداية، وبهدف - منذ البداية - محدد وواضح، ألا وهو: أي طرف يملك ناصية الحق؟ وأي طرف أحق من الطرف الآخر بأصوات «المحلفين»؟ وهكذا وهكذا. وبهذه الطريقة تنشأ الخناقة المصرية، لا بهدف أن ينتصر الطرف الأقوى على الطرف الأضعف، وإنما بهدف أن «يحكم» الجمهور ويحدد من هو الطرف الأقوى ومن هو الأضعف؟ من صاحب الحق ومن الكذاب؟ من هو الماكر الخبيث ومن هو صاحب القضية الغلبان؟ ومن أجل هذا تبدأ الخناقات المصرية جماهيرية منذ لحظة الصفر، درامية منذ بدأ التمثيل . كل طرف فيها يوجه خطابه - ليس بالكلمات مباشرة لتهد كيان العدو وتجعله يركع - وإنما بخطابات صاخبة عالية موجهة إلى الجمهور وإلى الإنسانية كي تقنع الجميع أن الطرف المتشرف بالحديث هو الطرف المظلوم المفترى عليه الغلبان، وأن الطرف الآخر هو المخطئ الظالم المستحق أن يوقع عليه العقاب. لا يتساءل المصري المتخانق: من سيوقع هذا العقاب؟ إن وجد الإنصاف، وإنما المهم أن يثبت للعالم أنه مظلوم وأنه يستحق الإنصاف، وأنه لولا التعقل لارتكب القتل والضرب والجنايات. لهذا فلا أعتقد أني بحاجة إلى وصف خناقة مصرية؛ فالعرض دائما وأبدا مستمر، والجمهور موجود يشهد ويتدخل ويمنع أن ينتصر أحد على أحد، يمنع القوة أن تكون هي الحكم، وصراع القوى أن يكون هو السبيل. إنه يتفرج على الخصمين ويستمع للحجج، وبمنتهى التعقل يتفحص، وفي الغالب يصدر حكمه. والأعجب أن الحكم لا يأتي أبدا ضد أي منهما، إنما يملك جمهورنا طاقة التعقل الكافية بمنح كل منهما قدرا من الحق وقدرا من الباطل، ذلك القدر الكفيل بأن يحل الصلح محل الخصام، والوئام محل الصراع، فإذا كان ثمة مظلوم في الموقف فإن الله سبحانه كفيل به وبإنصافه في الدار الأخرى، وإذا كان ثمة خطأ في الحكم ارتكبه القضاة للجمهور فإن يوم العدالة آت لا ريب فيه.
وهذه مجرد مقارنة، مجرد مثل؛ إذ تبقى الحقيقة التي لا شك فيها أننا أعقل أهل الأرض جميعا
ولعل هذا هو سبب أن خناقاتنا السياسية والعسكرية على المستوى الوطني أو القومي أو العالمي تسير على نفس الوتيرة وعلى نفس النسق.
كل ما في الأمر أن الجمهور القاضي في العالم ليس أبدا جمهورا محايدا، بل ولا هو كالجمهور المصري يتفحص القضية إحقاقا للحق والعدل، إنه جمهور يؤمن بالحقيقة القائلة إن الغالب دائما هو صاحب الحق، أو صاحب الحق هو دائما صاحب القوة.
كم من مرات خاطبنا فيها ضمير العالم وكأن للعالم ضميرا، والعالم له عيون، أما ضميره فهو مع صاحب الحق فقط حين يناضل صاحب الحق من أجل حقه، أما حين يتقاعس ويترك لهذا الجمهور القاضي وضميره أن يحصل على حقه فإنه لا يمتلك له إلا السخرية والصفير.
العالم لم يصبح معنا إلا بعد حرب أكتوبر.
ولن يصبح معنا إلا إذا شاهدنا دائما نناضل نضال المستميت لكي نحصل على حقوقنا، ونضال صاحب الحق والحصول على حقه هو الوسيلة الدائمة المثلى لإيقاظ «ضمير» العالم، فهو دائما نائم إلى أن توقظه ليست قسوة الظلم، وإنما قوة المظلوم في سحق ظالمه.
التصرف المصري أمام الخطر
كما توضع العينة تحت الميكروسكوب لفحصها، وضعت نفسي تماما في مكان سائق العربة التي اصطدمت بالقطار عند بنها؛ ذلك الحادث المروع الذي نتج عنه مقتل ثمانية عشر شخصا غير عشرات الجرحى والمصابين، بينما نجا سائق العربة واختفى في حقل الذرة القريب حتى قبض عليه البوليس.
أوقفت الزمن، تلك الثواني القليلة التي سبقت الحادث مباشرة، ثم رحت أمرره على مهل شديد في محاولة جادة مخلصة لمعرفة ما دار في عقل السائق بالضبط، وجعله - رغم أن أجراس المزلقان كانت تدق والنور الأحمر موقد علامة أن قطارا سيمر حالا - يقتحم الإشارة اقتحاما ليصطدم بالقطار! بالضبط ماذا حدث؟ وليس من أجل هذا السائق أو هذا الحادث بالذات أريد أن أعرف الجواب، إنما من أجلنا كلنا، ومن أجل الحوادث الأكيدة المماثلة المقبلة، من أجل أن نعرف أنفسنا ونعرف كيف ولماذا نتصرف أمام الخطأ أو الخطر؟ أو بالأصح ما هو الموقف المصري من الخطر؟
صفحة غير معروفة