على رأي كاريكاتير صلاح جاهين المشهور، كان ناس كثيرون في القاهرة، وفي ذلك اليوم بالذات مشغولين بحدث ضخم هائل أهم، حفل المطربة صباح في نادي الجزيرة وحكاية بيع فستانها. وأعتقد أنهم لا بد في مراكش كانوا يسمعون وإلى الرابعة صباحا مثلنا حفل موشحات أندلسية أو تسجيلا معادا لاحتفالات ميلاد الملك، واليمن الجنوبية كانت مشغولة بالشمالية والعكس بالعكس، والعراق بإيران. والأردن كان يعقد الندوات لمناقشة مشروع الملك حسين لحل الأزمة. وهكذا استشهد من الجيش اللبناني 41 ضابطا وجنديا ومن قوات الفدائيين 61 فدائيا وعدد لا يحصى من أطفال المخيمات ونسائها في سوريا ولبنان.
دعوة سريعة وممن؟
جاءت الدعوة سريعة وبالتليفون. كان مقرها أمانة النقابات المهنية بالاتحاد الاشتراكي، وحضرها الأمين العام، وكان أعضاء الاجتماع هم أعضاء مكاتب النقابات المهنية في مصر، وكانت نقابة المحامين قد طلبت من أمانة المهنيين أن تدعو لاجتماع لمناقشة هذا العدوان الإسرائيلي الحادث في وضح النهار ودون أدنى مواراة أو خجل.
والحقيقة لم أتوقع أن يكون الاجتماع من النوع الذي تسوده هذه الروح؛ روح ديمقراطية لا تخضع لأي قيد على رأي ممكن أن يعن لصاحبه. وتحدث عدد وافر من الحضور، وكنت قادما في التو من بيروت بعد حضوري المؤتمر الأول لاتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين، وكنت قد تركت لبنان وأثار جريمة العدوان بادية لكل عيان، ونقلت لزملائي المجتمعين ما رأيته وما لمسته من غياب يكاد يكون تاما للرأي الشعبي العربي.
لقد استثمرنا أحلى السنوات من عمر ثورتنا في الوطن العربي، وسقط منا الشهداء تلو الشهداء دفاعا عن هذه الأمة من أقصى جنوبها إلى أقصى الشمال، وخسرنا الكثير، بل كدنا نصبح الخاسرين الوحيدين في معركة تعرف هذه الأمة على ذاتها وكيانها ورسالتها. جاء عبد الناصر إلى مصر مصرية ولا شيء أكثر من هذا، وغادرها وقد آمنت مصر برسالته وأدركت ولأول مرة منذ زمان طويل أنها عربية وأنها جزء من أمة عريضة ومترامية من المحال أن تحيا بغير هذه الأمة، ومن المحال أن تحيا هذه الأمة أو تكون بغيرها. إنها غنية برجالها وإمكانياتها، وحتى بصراعاتها غنية، تكاد تصبح بمواردها الطبيعية أغنى أمة على سطح الأرض، وتنفرد مع قليل غيرها من الأمم بلغة واحدة، ومزاج نفسي يكاد يكون واحدا، ودين في أغلبه واحد. ولقد سرت بعد هزيمة 67 بالذات نغمة في مصر راحت تروج للعودة للتقوقع على النفس ولعق ما أصابنا من جراح، ولكن فات أصحاب هذا التيار أن صعوبة التحقيق لا تعني بالضرورة أن المبدأ خاطئ أو قاصر، إنها تعني فقط أن العقبات كثيرة وأن المسائل لا تتحقق هكذا بين يوم وليلة، وأنه إذا كان القدر قد ألقى بحكم الموقع والتاريخ والحجم على مصر أن تقود نضال هذه الأمة، فالتصدي لهذه العملية التاريخية شيء مكلف ومحفوف بالمصاعب والمخاطر، فالتصدي أبدا إذا انهزمنا مرة أو طعنا بالانفصال مرة أن ننفض يدنا ونيئس. إننا تصدينا لرسالة يلزم لتحقيقها عشرات السنين ومئات المحاولات، وجريمة حقيقية أن نكسر بأنفسنا إرادة الطموح فينا، وعند أول عقبة نعود للتقوقع والانكفاء للعق الجراح.
إن الصدمة التي حدثت لنا بهزيمة 67 لم أكن شخصيا ولا أعتقد أن أحدا كان باستطاعته أن يتنبه إلى أنها ستغور في أنفسنا بعيدا إلى هذا العمق. لقد ضخمنا العدو إلى ما هو أكثر بكثير من حجمه، وقللنا من أنفسنا إلى ما هو أقل بكثير من حجمنا.
إنني لا أفهم كثيرا في تعبير «الحرب النفسية»، ولكنني متأكد أن آثارها إن كان بعضها بفعل دعايات العدو وأجهزته، فإن معظمها بفعلنا وبأيدينا. وصديقا لصديق وجارا لجار وسيدة لأخرى نتولى جميعا وبالحديث اليومي الذي لا يتغير ولا يشذ تحطيم أي بارقة أمل فينا أو بصيص نور. ربما ليبرر كل منا لنفسه تقاعسه واستسلامه المطلق لسقوطه الخاص والشعور بالهزيمة الذي يعفيه من مسئولية الأمل؛ فالأمل لا ينبت إلا في صدور الأحرار، والعجز إحساس عبيد ومبرر لكل التصرفات الخسيسة التي يمكن أن يقوم بها إنسان فقد تاج الإنسان، وتاج الإنسان كرامته.
لا لم نمت، ولا انتهينا في 67، ولا في غير 67 سننتهي.
كل ما في الأمر أننا في حاجة إلى صدمة، ولتكن كهربائية، أو من أي نوع كان، لنفيق.
الوفد يتشكل
صفحة غير معروفة