وإن كان في المال قل (1) فإن المال رزق حائل ، وظل زائل ، وله في خديجة رغبة ، وصداق ما سألتموه عاجله من مالي ، وله والله خطب عظيم ، ونبأ شائع. فتزوجها وانصرف.
قال عمار : فلما أصبح عمها عمرو بن أسد ، أنكر ما رأى ، فقيل له : هذا ختنك محمد بن عبد الله أهدى لك هذا. قال : ومتى زوجته؟ قيل له بالأمس ؛ قال : ما فعلت. قيل له : بلى نشهد أنك قد فعلت.
فلما رأى عمرو رسول الله (ص) قال : إشهدوا أني إن لم أكن زوجته بالأمس ، فقد زوجته اليوم (2).
إلى جانب هذا ، كان عمار في تجواله مع النبي (ص) في بطاح مكة وشعابها ، وبين الصفا والمروة ، وحول البيت ، يصغي مسامع قلبه إلى أحاديث النبي وكلماته ، فقد كان محمد قبل البعثة يمثل صحوة العقل الإنساني ونقاء الضمير فيه ، كثير التأمل في ظواهر الكون والخلق ، شديد التنديد بآلهة قريش وعابديها والمروجين لها ، أولئك الذين استحكم الجهل والعمى في نفوسهم فانحرفوا عن المسار الفطري السليم ، وجنحوا بالإنسانية النقية الطاهرة إلى مهاوي الغي والضلال ، فابتعدوا عن حنيفية إبراهيم وشرائع الأنبياء ، وباعوا ضمائرهم للشيطان يملي عليهم ما يشاء من نواضح كيده ، وبهارج زينته ، فيتركهم يتخبطون في ظلام الجاهلية ، لا يرون أبعد من آنافهم ، وهل أذل وأضعف وأحقر من إنسان يستعين على أموره بحجر زاعما أنه الآلهة التي تملك كل شيء وتفعل كل شيء ، أو أنها تقربه إلى الله الخالق!؟ جنون يا له من جنون!!
كانت أحاديث النبي وكلماته وتنديداته توقض الجانب الإيماني في نفس عمار ، كما تلهب فيه الشعور بالتقصير ، تقصير الإنسان في حق نفسه وربه.
صفحة ٢٩