بقي وحيدا خارج القرية فوق الهضبة الجرداء، وكانت الصخور في ضوء القمر كالعظام البيضاء، والذئاب تعوي تحت ضوء القمر في بطن الوادي، وقد آلمته الجروح وتدفقت منها الدماء، ولكنه لم ينتحب من أثر الجراح، وإنما كان يبكي وحدته؛ لأنه طرد وحيدا فوق هذه الصخور التي تشبه في ضوء القمر هيكل العظام، فجلس عند حافة الهضبة، والقمر خلفه، وألقى بصره إلى ظل الهضبة الحالك، أو ظل الموت الأسود، فما عليه إلا أن يخطو إلى الأمام خطوة ثم يقفز ... ومد يمناه في ضوء القمر، وما برحت الدماء تتدفق من معصمه، وتسقط قطرات كل بضع ثوان، وهي تكاد تكون عديمة اللون في ذلك الجو القاتم، سالت الدماء نقطة نقطة، وكأنها تقول له: «غدا، غدا، غدا ...»
في تلك العزلة أدرك صاحبنا الزمان، والموت، والله ...
وكان الشاب يقول: «كنت دائما وحدي.»
فكان لهذه الألفاظ صدى أليم في صدر برنارد، فقال لصاحبه وقد أولاه كل ثقته: «كنت دائما وحدك، وإني لكذلك في عزلة تامة.»
فسأله جون في دهشة بالغة: «هل أنت وحيد؟ لقد كنت أحسب أنكم في العالم الآخر ... أعني أن لندا كانت تقول لي دائما: «إن المرء هناك لا يشعر بالعزلة البتة.».»
فساور القلق نفس برنارد وتدفق الدم في وجنتيه من شدة الخجل، وقال متمتما وقد حول عنه عينيه: «أحسب أني على خلاف مع أكثر الناس، فالمرء إذا أفرغ من القارورة بطريقة مخالفة ...»
فأومأ الشاب برأسه قائلا: «أجل، هو ذاك، إن المرء إذا اختلف عن غيره، فلا مندوحة له عن الشعور بالوحدة، وحينئذ يقسو عليه العالم. هل تعلم أنهم يبعدونني عن كل شيء كل الإبعاد؟ فعندما أرسلوا الغلمان الآخرين؛ ليقضوا المساء فوق الجبال (وأنت تعلم بالطبع شعور المرء عندما يرغم على أن يحلم بالحيوان الذي يجب عليه أن يقدسه) لم يسمحوا لي برفقتهم ولم يبوحوا لي بسر من أسرارهم، ثم قال: «ولكني فعلت ذلك بنفسي، فلم أتناول طعاما مدة خمسة أيام، ثم خرجت ذات مساء وحدي إلى تلك الجبال.» وأشار إليها.
وابتسم له برنارد ابتسامة العطف وسأله: «وهل حلمت بشيء ما؟»
فأومأ الشاب بالإيجاب وقال: «ولكن لا ينبغي لي أن أذكر لك ما حلمت به.» ثم صمت برهة من الزمن، واصل حديثه بعدها بصوت منخفض، قال: «لقد فعلت مرة أمرا لم يفعله غيري من الآخرين، وقفت تجاه صخرة في رابعة النهار صيفا، وذراعاي ممتدتان إلى جانبي كالمسيح فوق الصليب.» - «عجبا! ولماذا فعلت هذا؟» - «أردت أن أحس بشعور المصلوب، وبقيت هناك في الشمس معلقا ...» - «ولماذا؟»
فقال مترددا: «لماذا؟ ... لأني شعرت بضرورة هذا العمل ما دام المسيح قد استطاعه، ثم إن المرء إذا أخطأ ... وكنت فوق ذلك تعسا، وهذا سبب آخر.»
صفحة غير معروفة